حكاية من بيتي (17)

محمد أحمد الفيلابي
روشتة حاج سعيد
ــ واطاتنا بقت فقرانة وعريانة.
قالها في ثقة وجلس. ولعله أراد أن يسكت حديث من كان يحدثهم عن طاقة تخزين التربة، ومخاطر التبخُّر، وموت الأرض، وهم يتلفتون، بينما مسؤول المشروع الزراعي الحكومي يتحاشى نظراتهم، ويحاول أن يهمس ليوقف سيل حديث الخبير الذي لم يتوقف، كأنّه يخشى أن ينسى شيئاً مما حفظ. وما إن سكت حتى وقف أكبر المزارعين سناً بلا استئذان ليشكر الخبير الذي ما خَبِروا من قوله شيئاً، ثم توجّه إلى الآخرين ليقول إنّ مشكلتهم هي فقر التربة، وانحسار غطائها النباتي (1)، أي ببساطة أن..
ــ واطاتنا بقت فقرانة وعريانة.
وقد لخص رؤيته في العمل بنظام السدود، وزراعة الأحزمة الشجرية. وهكذا حُرِّرت “روشتة” العلاج.
ــ كلامك صاح يا حاج سعيد.
التفت الجميع إلى صاحب الصوت الذي لا يسمعونه إلا نادراً، وهو يعتلي صهوة بعيره ويغادر المكان.
استهجن البعض حضوره وحديثه وهو الذي لا يملك أرضاً زراعية مثلهم، إنما هو تل رملي يخفيه من الشارع العام سور أخضر كثيف الأشجار. ولم يدخله إلا القلة ممن يذهبون هناك بقصد دعوة الرجل الغريب للقيام ببعض الأعمال التي اشتهر بها. أو الأطفال الذي يمارسون في ممارسات الشقاوة يدخلون ذلك الحقل في غياب صاحبه، موقنين بعدم استطاعة زوجته المبتورة الساق اللحاق بهم. يعاينون البئر ذات الدعامات الخشبية الهندسية، والدرج الحلزوني البديع، والحقل بتروسه العديدة، وأشجاره الظليلة، وخضرته اليانعة في حقل من الرمل، إلّا من بعض الطين الأسود المخلوط بالروث عند سيقان الشجيرات والنباتات الصغيرة، يجلبه من جروف النيل، والجزر الخصبة على ظهر بعيره أو حماره. وكانت له حكمته في تبادل استخدامهما.
في ذلك النهار لفتت نظره السيارات الحكومية وتلك الجمهرة تحت الحرازة العجوز. أناخ بعيره خلف السيارات، ووقف ليسمع ظناً منه أن في حديثهم ما قد يشير إلى معالجة تكاثر الزرازير وخطوة الأمر على موسم الحصاد.
في الكثير من المناطق الريفية تجد من يفضل البقاء على هامش حياة الآخرين، وإن سكن ومشى بينهم. وفي الغالب الأعم يكون السبب أنه لا يمتلك قطعة أرض موروثة من الأسلاف. ومن بين هؤلاء نجد هذا الغفاري المسلك. الرجل الغريب الأطوار. يحدثون عن عصاميته، وقوته البدنية التي لا تضاهى.
يعيش من مهنته في حفر الآبار، وتلييس البيوت الطينية بالروث، وهو غالباً يعمل لوحده، فقواه العضلية تكفيه، وربما تأتي الاشارة لقوى الرجل العقلية تلميحاً، فقد اعترف له الجميع بأنه استطاع أن يحفر بئراً في حقله الصغير مستعيناً بحماره بعد أن ابتنى درجاً دائرياً يمكنه من الصعود والهبوط هو وحماره حتى اكتمل البئر وتفجر منه الماء. ومجدداً ابتكر ما لم يعرفه الناس من وسائل لإخراج الماء ورى الحقل. كما يذكرون له طريقته النادرة في إخراج التراب من الآبار، مستعيناً بآلة من صنعه، أسماها أو أسمهوها هم بـ(الفرنب)، وهي آلة خشبية قوامها حبل وبكرة مثبتة على قائم فوق فوهة البئر، يمر فوقها الحبل، وما أن يصل المقطف (القفة) إلى خارج البئر حتى تقوم آلته بفضل حركة ميكانيكية من ابتكاره بقذف المقطف بمحتواه بعيدا عن الفوهة، ثم يجذب الحبل من طرفه الآخر ليعود المقطف إلى داخل البئر.
الناس في بلادي يتنازعون في مساحات صغيرة من الأرض، بينما (أرض الله واسعة). وقد نأى هذا الرجل عن ما يمكن أن يحدث نزاعاً، فاختار ذلك التل.
فـ”النزاع على الارض في السودان لا يتعلق فقط بجوانب اقتصادية متعلقة بالملكية ولكنه متعلق أيضا بحقوق الانتماء والارتباط الثقافي والتاريخي بالمكان. حيث أن علاقات الأرض في السودان ليست فقط جزء من علاقات الإنتاج والتراكم الرأسمالي، علي أهمية هذا الجانب، ولكنها متعلقة أيضاً بمسألة الارتباط بالجذور والرمزية لمسألة الوطن وحق الإقامة والاستقرار والشعور بالأمان وتكوين شبكات العلاقات الاجتماعية الداعمة التي تسهم في بناء مجتمعات مستقرة آمنة ومزدهرة. (2)
لم يهتم بأنه لا يمتلك كالآخرين أرضاً زراعية فقرر أن يجعل لنفسه مزرعة على التل الرملي المهمل بشجيراته الغبشاء المتباعدة، تخضر شهوراً قليلة في موسم الخريف، ثم لا تلبث أن تعود لفقرها و(مسكنتها) كما يعبّر هو. فشرع في بناء تروس تحبس مياه الأمطار قبل أن تلتحق بالمجاري الصغيرة لتتخذ طريقها إلى النيل. وذلك في دقة تجعل كماُ من تلك المياه ينحدر عبر مصرف صغير إلى البئر وسط الحقل، ومنها ما يتبقى في منخفضات متفاوتة الأحجام تحفّها الأشجار الشوكية لعدة شهور، يسميها “المحاقن”، نسبة لدورها في حقن المياه في الحوض الجوفي، والمطامير المليئة بالصخور الصغيرة حول الأشجار وأحواض الزرع، لتحافظ على رطوبة الأرض.
لم يكن الزرزور وحده الذي هدّد حياة المزارعين في تلك النواحي، فقد زحفت الرمال لتقضم أطرافاً من الحقول. وقد أسعفه حاج سعيد حين قرر أن الأرض العريانة تحتاج الكساء، وتحتاج معالجة فقرها إلى تقنيات أجاد منها الكثير. أما الزرازير فمقدور عليها. فقد شوهد وهو يجمع العلب المعدنية، وأتي من ورش الحديد في السوق القريب بالقطع الصغيرة، وعكف عليها لأيام بمساعدة زوجته لصناعة أجراس عديدة تدلت من شبكة الحبال حول الحقل بأكمله، ثم قام بتركيب مروحة هواء عظيمة فوق أعلى منطقة من الحقل ربطها بشبكة الحبال التي تهتز بفعل أقل حركة هواء فتنطلق الأجراس لتصنع صخباً كفيلاً بطرد الطيور. ذلك بجانب الهنابيل التي وزعها في الحقل ترفرف ثيابها بفعل الهواء لتخيف الطيور.
من كان يظن أن ذلك الأصفر يتحول إلى خضرة يانعة؟
انشغل العالم كثيراً بتحويل الصحاري القاحلة إلى أراضٍ منتجة، لتتولد من التجارب ما يؤكد أنه بالإمكان تجاوز التحديات في حال توفر الإرادة، والسياسات المساندة، والبحوث والدراسات الوافية، مع القدرة على استنهاض المجتمعات المحلية وتحفيزها وإشراكها. إذ ما كان للصين أن تنجح في تحويل 1130 هكتاراً من الرمال إلى أراضٍ صالحة للزراعة لولا تفعيل هذا المزيج من التحديات، وابتكار التقنية المسماة “تربة الصحراء”، والناتجة عن خلط الرمل مع معجون ذي قدرة على الاحتفاظ بالماء والأسمدة، ما أدى إلى تحسين إنتاجية المحاصيل، وتحويل الصحراء إلى حدائق.
وفي مناطق عديدة من أفريقيا تعرفت المجتمعات الفقيرة إلى الزراعة المستدامة، ونجحت مشاريع المرونة في مساعدة ملايين الأشخاص، وتحولت أراضي صحراوية إلى سلالٍ غذائية. وبات من الممكن لكل هكتار تجري إعادة تأهيله أن يؤثر في ثلاثة أضعاف المساحة من الأرض، فالبرنامج مع توفيره للغذاء، يوفر الأفكار والمعدّات وفرص التمويل، والمعينات الزراعية، ويدعم المواطنين، ويدفعهم إلى المشاركة من خلال سياسة الغذاء مقابل العمل، ليتحقق الاستقرار، وينهض الإنتاج، وتصبح الأرض هي الأم المغذية، وبسواعدهم والتجارب القادمة إليهم من بعيد، يبنى سياج ضد الجوع، والتصحر، وآثار تغير المناخ.
برنامج الجدار الأخضر العظيم في أفريقيا الذي يعمل مع السكان المحليين على مشروع لتخزين المياه التي تنهمر عليهم لثلاثة أشهر في العام، فيتسرّب منها ما نسبته 15% إلى المياه الجوفية، ويبقى جزء كبير على السطح، وقد كانت هذه المياه في السابق تضيع مخلفة جفافاً يطول لتسعة أشهر، الأمر الذي يعد من التجارب المبدعة لحصاد المياه (3).
ــ واطاتنا بقت عريانة وفقرانة.
عندما زاره حاج سعيد في حقله أراد أن يقف على حقيقة قوله. إذ أن لكل قول حقيقة. كان من بين من يضحكون منه، إذ كيف بالرمل ينبت زرعاً؟ وكيف بهذا الغريب يستطيع أن يروي حقله دون طلمبة أو حتى ساقية صغيرة؟ أما وقد رأي بأم عينه فقد وجد أن الرجل أكثر لم يفعل من إعمال عقله. وخرج من عنده وهو يثني على قدراته العقلية والبدنية. وإنه لا شيء، على الإطلاق يمكنه أن يكون أكثر أهميّة من إعمال العقل.
ولعل قد أدار في عقله السؤال..
هل نحن بخلاء في تفكيرنا؟ أم أننا كُسالى فحسب؟.. ولماذا لا نوظف هذه القدرة أكثر مما نحن فاعلون؟
فالتفكير حالة مقترنة تماماً بالصحو العقلي لدى الانسان، دون أن يكون لذلك أيما علاقة بمدى التحصيل العلمي والاكاديمي النظامي للمفكر. فكل آدمي يبدع تفكيراً يخدم مصالح عمله اليومي، وهناك من يبدع أفكاراً تخدم سواه دون أن يعي. ونجد أن البعض يكتفى بقطف ثمرات تفكيره المبدع بعيداً عن الآخرين، أو بين مجموعة تتحلَّق حوله كالهالة التي تحف القمر عند الاقتران، لكنهم (نخبة) ليس بيدهم، القدرة على تحويل تلك الأفكار لخدمة الناس، أو أنهم في تكاسلهم لا يرغبون أن ينتفع الآخرون بأفكارهم، مثلهم مثل البخيل الذي لا يطيق أن يري قرشاً يخرج من يده إلى آخر.
وإلى اللقاء في حكاية جديدة من بيئتي.
الهوامش:
(1) التل المخضر – مقال للمؤلف – منشور بالعربي الجديد 2 يوليو 2019
(2) عثمان نواي – المواطنة المؤقتة في السودان.. ملكية الأرض كآلية استغلال واضطهاد – صوت الهامش – 7 يوليو 2018
(3) ابتسامات الأرض مقال للمؤلف منشور في 12 أغسطس 2025





