فلنغنِّ..للسلام والثورة «الموسيقى والكلمة في مواجهة الرصاصة»

أفق جديد 

لم يكن مساء كمبالا مساءً عاديًا. كان مساءً خرج فيه الزمن عن رتابته، وتقدّم فيه الحلم خطوة إلى الأمام، فيما تراجعت الحرب — ولو قليلًا — أمام قوة لا تُقاس بالمدافع ولا تُهزم بالقنابل: قوة الموسيقى والكلمة. هناك، في العاصمة الأوغندية، انطلق كرنفال الحب والسلام، حدثٌ بدا منذ لحظته الأولى وكأنه رسالة مفتوحة من السودانيين إلى العالم، مفادها أن هذا الشعب، رغم النزيف، لا يزال قادرًا على الغناء، وعلى تحويل الألم إلى معنى، واللجوء إلى وعد.

في فضاءٍ اكتظّ بالحنين، تلاقت وجوه سودانية جاءت من جهات المنافي البعيدة، تحمل الوطن في الذاكرة، وفي اللهجة، وفي نظرة العين التي لا تخطئ طريقها نحو الخرطوم، أو دارفور، أو الجزيرة، أو الشرق، أو الشمال. كمبالا، تلك المدينة التي صارت محطة عبور لآلاف السودانيين الفارّين من جحيم الحرب، تحوّلت مساء أمس إلى عاصمة رمزية لوطنٍ مؤقت، وطنٍ تصنعه الأغنية حين تضيق الجغرافيا.

لم يكن الكرنفال فعالية فنية بالمعنى التقليدي، بل كان فعلًا سياسيًا وأخلاقيًا، موقفًا واضحًا في زمن الالتباس. عنوانه العريض: الحب والسلام، وخصمه المعلن: الحرب والموت والدمار. ومنذ اللحظة الأولى، بدا واضحًا أن المنصة ليست للغناء وحده، بل للبوح، للمقاومة الناعمة، ولإعادة تعريف معنى الثورة بعيدًا عن الضجيج والرصاص.

على منصات التواصل الاجتماعي، كانت الشاشات تشتعل. أكثر من مليون سوداني من الداخل والخارج تابعوا الجلسة الافتتاحية، بعضهم في مدن ما زالت تسمع دويّ المدافع، وبعضهم في مخيمات نزوح، وآخرون في شقق ضيّقة في عواصم بعيدة. الجميع اجتمعوا، ولو افتراضيًا، حول صوت واحد، وحنين واحد، وسؤال واحد: هل يمكن للأغنية أن توقف الحرب؟ ربما لا، لكنها بالتأكيد قادرة على فضحها، وعلى سحب الشرعية الأخلاقية من فم البندقية.

افتُتحت الليلة بصوت الفنان أبوبكر سيد أحمد، الذي بدا كأنه يستدعي السودان من ذاكرة بعيدة، سودان ما قبل الانكسار الكبير. صوته، وهو يتسلّل بين المقامات، لم يكن مجرد أداء فني، بل كان استعادة لحقٍ مسلوب: حق الفرح. غنّى، فبكت بعض الوجوه بصمت، ليس حزنًا فقط، بل لأن الأغنية، حين تأتي من عمق التجربة، تُعيد ترتيب القلب.

في تلك اللحظات، لم يكن أحد يسأل عن الانتماءات السياسية، ولا عن اختلافات الرأي. كان الجميع هناك بصفتهم الأساسية: سودانيين، ضحايا حرب لم يختاروها، وحالمين بسلامٍ لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية. كانت الأغنية تُنصت للجراح، لا لتجميلها، بل للاعتراف بها، تمهيدًا لتجاوزها.

وعقب الفنان أبوبكر سيد أحمد، جاء محمد تروس بفاصلٍ منلوجيٍّ ساخر، فضح فيه — كعادته الذكية — الدقن المخفية تحت الكاب، كاشفًا نفاق الخطاب، ومُعرّيًا أقنعة الزيف بضحكةٍ مُرّة تعرف طريقها إلى الوعي.

ثم جاء دور أزهري محمد علي، شاعر الوطن، فارتفعت الكلمة إلى مقامها الأعلى. لم يصعد إلى المنصة كشاعر يلقي قصائد محفوظة، بل كضميرٍ جمعي، يحمل في صوته ذاكرة الشوارع، وهتافات الميادين، ودموع الأمهات. قصائده الثورية لم تكن تحريضًا على الكراهية، بل تمرينًا على الوعي، دعوةً مفتوحة لاستعادة المعنى الحقيقي للثورة: أن تكون من أجل الحياة، لا من أجل موتٍ آخر.

حين ألقى أزهري قصائده، بدت الكلمات كأنها تعرف طريقها إلى القلوب دون استئذان. لم تكن بحاجة إلى شرح، لأن السودان — في تلك اللحظة — كان نصًا مفتوحًا، مفهومًا للجميع. تحدّث عن الوطن بوصفه فكرة أخلاقية قبل أن يكون حدودًا، وعن السلام كفعل شجاعة، لا كتنازل. وفي كل بيتٍ شعري، كانت الحرب تُدان، لا بصراخٍ أجوف، بل بفضح عبثها، ولا جدواها، وخسارتها الأخلاقية الفادحة.

ومع اقتراب ختام الليلة الأولى، كانت الأنظار تتجه نحو لحظة انتظار خاصّة. صعدت نانسي عجاج إلى المسرح، محمولة بتاريخٍ فنيٍّ طويل، وبمحبةٍ صادقة من جمهورٍ يرى فيها أكثر من مطربة؛ يرى فيها صوتًا يشبهه، ويشبه أحلامه المؤجلة. سندريلا الغناء السوداني، كما يحب أن يلقّبها جمهورها، بدت في تلك الليلة مختلفة، أكثر قربًا، وأكثر صدقًا.

قبل أن تغنّي، أطلقت وعدًا إنسانيًا لاقى ترحيبًا واسعًا: زيارة معسكرات النازحين. لم يكن الوعد استعراضًا، بل تعبيرًا عن فهمٍ عميق لدور الفنان في زمن الكارثة. فالفن، حين ينفصل عن الناس، يفقد روحه، وحين يقترب منهم، يصير ضرورة.

ثم غنّت. وغنّت كما لم تغنِّ من قبل. كان صوتها، في تلك اللحظة، أشبه بخيط ضوء يتسلّل إلى عتمة كثيفة. لم تكن الأغنية هروبًا من الواقع، بل مواجهة له، ولكن بلغة مختلفة. وحين صدحت:

«بنعشق شمسها الحراقة

بتلهب في القلوب دفاقة»

بدت الكلمات كأنها تعيد تعريف الشمس ذاتها: شمس لا تحرق لتدمّر، بل لتوقظ، لتمنح الحياة معناها الأول. كانت الأغنية نشيدًا غير معلن للوطن، وطنٍ متعب، لكنه لم يستسلم.

في تلك اللحظات، تلاشت المسافات بين كمبالا ونيروبي والخرطوم والفاشر ومدني وبورتسودان. صار المكان واحدًا، وصار الزمان معلّقًا بين ألمٍ حاضر، وأملٍ ممكن. لم يكن أحد يتوهم أن الكرنفال سيُنهي الحرب، لكن الجميع كانوا يدركون أنه يضعها في موضعها الصحيح: كعارٍ أخلاقي، لا كقدرٍ محتوم.

كرنفال الحب والسلام لم يكن حدثًا عابرًا في روزنامة المنفى، بل كان علامة فارقة في مسار الوعي الجمعي للسودانيين خارج البلاد وداخلها. هو تذكير بأن الثورة ليست فقط في الشارع، بل في الوجدان، وأن السلام ليس شعارًا، بل ممارسة يومية، تبدأ برفض خطاب الكراهية، وتنتهي بالإيمان بأن الوطن يسع الجميع.

ومن كمبالا، حيث بدأت الحكاية، يستعد الكرنفال للانتقال إلى نيروبي في الثالث والعشرين من الشهر الجاري، حاملاً معه الرسالة ذاتها، وموسّعًا دائرة الضوء. هناك أيضًا، سيجتمع السودانيون، ليقولوا للعالم، ولأنفسهم قبل ذلك، إن هذا الشعب، مهما أثخنته الجراح، لا يزال يملك صوته، وكلمته، وقدرته على الغناء.

في زمنٍ تُقاس فيه القوة بعدد البنادق، جاء هذا الكرنفال ليقترح معيارًا آخر: عدد القلوب التي ما زالت تنبض حبًا، وعدد الأصوات التي ترفض الصمت، وعدد الأغاني التي تُصرّ على الحياة. كان ذلك المساء، في جوهره، بيانًا غير مكتوب، مفاده أن السودان لن يُهزم طالما هناك من يغنّي له، ومن يكتب عنه، ومن يحلم به حيًا.

وهكذا، بين أغنيةٍ وقصيدة، وبين وعدٍ إنسانيٍّ وصوتٍ صادق، أعاد كرنفال الحب والسلام طرح السؤال الأهم: أي وطن نريد؟ وطن الرصاصة، أم وطن الموسيقى؟ وفي كمبالا، كانت الإجابة واضحة، عالية، ومشحونة بحب الوطن: فلنغنِّ… للسلام، وللثورة، وللحياة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى