في ذكرى رحيله الخامسة .. الصادق المهدي .. رؤى تستبصر مستقبل البلاد

أفق جديد

شكّلت ذكرى ميلاد الإمام الصادق المهدي، منذ سنوات حياته، محطة فارقة في المشهد السياسي السوداني، ولحظة سنوية يتوقف عندها حزب الأمة القومي للتأمل والمراجعة النقدية لمسار العمل السياسي، وحال التحول المدني الديمقراطي في البلاد. ولم تكن هذه الذكرى احتفاءً رمزياً عابراً، بل تحوّلت إلى تقليد سياسي وفكري درج الحزب على استثماره بوصفه مساحة مفتوحة لإعادة قراءة الواقع، واستدعاء الأسئلة الكبرى المتعلقة بالدولة، والديمقراطية، والسلام، ومستقبل المشروع الوطني.

وعقب رحيل الإمام الصادق المهدي، حافظ الحزب على هذا التقليد بذات الروح، من خلال صالون الإبداع، الذي أصبح منصة لإحياء ذكرى ميلاده ووفاته بالنسق ذاته: نقاش فكري مفتوح، يتجاوز حدود التمجيد، ويغوص في جوهر الأفكار والرؤى التي طرحها الإمام، بوصفها أدوات لفهم الأزمة السودانية الراهنة ومحاولة تفكيكها. وفي هذا السياق، نظّمت اللجنة العليا لإحياء الذكرى الخامسة لرحيله ندوة فكرية كبرى حملت عنوان «الحل على خطى الإمام»، في لحظة سياسية بالغة التعقيد، تعيش فيها البلاد حالة غير مسبوقة من التمزق، والحرب، وانهيار الدولة.

ناقشت الندوة أربع أوراق عمل، تناولت قضايا محورية تتصل بمستقبل السودان، ومستقبل حزب الأمة، في ظل الحرب والانقسام، مستهدية برؤى الإمام الصادق المهدي، ومحاولة اختبار راهنيتها وقدرتها على تقديم إجابات عملية لأزمة الحاضر. وقد تنوّعت الأوراق بين التحليل الفكري، والتشخيص السياسي، والقراءة التنظيمية، بما عكس تعدد زوايا النظر إلى مشروع الإمام، واتساع دوائره.

مشروع الإمام وبناء الديمقراطية المستدامة

الورقة الأولى قدّمها الخبير الاقتصادي ووزير المالية السوداني الأسبق د. إبراهيم البدوي تحت عنوان «مشروع الإمام من أجل بناء ديمقراطي مستدام»، في قراءة تحليلية تجاوزت التناول التأريخي التقليدي لشخصية الإمام الصادق المهدي، وقدّمته بوصفه صاحب مشروع فكري وسياسي متكامل، سعى إلى تأسيس نموذج ديمقراطي سوداني قادر على الصمود أمام الانقلابات، والتشظي الاجتماعي، وأزمات الدولة الوطنية.

تنطلق الورقة من فرضية مركزية مفادها أن الأزمة السودانية ليست أزمة نظم حكم متعاقبة أو نخب سياسية فحسب، بل أزمة نموذج دولة فشل تاريخيًا في إدارة التنوع، وتحقيق العدالة، وربط الديمقراطية بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية. ومن هذا المدخل، يرى البدوي أن مشروع الصادق المهدي قدّم واحدًا من أكثر التصورات اكتمالًا لمعالجة هذا الخلل البنيوي، حتى وإن تعثّر تطبيقه في الواقع السياسي.

ويؤكد البدوي أن الإمام الصادق المهدي تعامل مع الديمقراطية بوصفها منظومة قيم ومؤسسات، لا مجرد آلية إجرائية لتداول السلطة عبر الانتخابات. فالديمقراطية في مشروعه ترتبط بالحريات العامة، وسيادة حكم القانون، والعدالة الاجتماعية، والتوازن بين المركز والأقاليم، وبناء توافق وطني واسع يحمي النظام الديمقراطي من الانهيار المتكرر بفعل التدخل العسكري.

وتربط الورقة بين الديمقراطية والاقتصاد السياسي، معتبرة أن الصادق المهدي أدرك مبكرًا أن الديمقراطية لا يمكن أن تستقر في ظل اقتصاد هش، وفقر واسع، وتهميش مناطقي عميق. ولذلك طرح تصورًا تنمويًا مرنًا، يوازن بين دور الدولة والقطاع الخاص، ويعالج الاختلالات الهيكلية التي ورثها السودان منذ الاستعمار، دون الارتهان لأيديولوجيا اقتصادية جامدة.

كما تولي الورقة أهمية خاصة لرؤية الإمام في إدارة التنوع الديني والثقافي والإثني، حيث قدّم مفهوم الدولة المدنية ذات المرجعية القيمية، التي تفصل بين الدين كمصدر أخلاقي جامع، والدولة كمؤسسة محايدة تجاه مواطنيها. ويرى البدوي أن هذا الطرح كان محاولة جادة لتجاوز الاستقطاب الحاد بين الدولة الدينية والدولة العلمانية، الذي ظل أحد مصادر عدم الاستقرار السياسي في السودان.

ولا تتجاهل الورقة إخفاقات التطبيق، إذ يقرّ البدوي بأن مشروع الإمام ظل في كثير من جوانبه حبيس النخب، ولم يتحول إلى برنامج جماهيري واسع، بفعل هيمنة المؤسسة العسكرية، وضعف الأحزاب، وتعقيدات البيئة الإقليمية والدولية. لكنه يميّز بوضوح بين فشل التطبيق وقيمة الفكرة، معتبرًا أن أطروحات الصادق المهدي ما تزال تحتفظ براهنيتها في سياق البحث عن مخرج للأزمة السودانية الراهنة.

لا سلام بلا عدالة

أما الورقة الثالثة، فقد قدّمها الباحث والناشط السياسي مصطفى صالح تحت عنوان «لا سلام بلا عدالة»، وتناولت رؤية الإمام الصادق المهدي للسلام بوصفه مشروعًا تأسيسيًا لإعادة بناء الدولة السودانية، لا مجرد تسوية سياسية أو إجراء أمني لوقف إطلاق النار. وتنطلق الورقة من فرضية واضحة مفادها أن أزمة السلام في السودان هي في جوهرها أزمة عدالة، وأن كل المحاولات التي فصلت بين المسارين انتهت إلى إعادة إنتاج العنف وعدم الاستقرار.

وتوضح الورقة أن الإمام الصادق المهدي نظر إلى السلام باعتباره عملية سياسية وأخلاقية شاملة، تتطلب إصلاح بنية الحكم، وإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، ومعالجة اختلالات الشرعية التي تراكمت منذ الاستقلال. فالسلام، وفق هذا التصور، لا يتحقق عبر اتفاقيات جزئية تُدار بين نخب محدودة، ولا يُختزل في وقف القتال، بل يقوم على إعادة تأسيس العقد الاجتماعي على أسس عادلة وشاملة.

وتقف الورقة عند التجربة السودانية في اتفاقيات السلام، من نيفاشا إلى أبوجا وجوبا، معتبرة أنها مثّلت نموذج «السلام الأدنى»، الذي ينجح مؤقتًا في تجميد العنف، لكنه يفشل في إغلاق أبواب الحرب. وترى أن الخلل الجوهري في هذه الاتفاقيات يكمن في تعاملها مع الصراع كأزمة أمنية طارئة، لا كنتيجة لبنية تاريخية من التهميش، وسوء توزيع السلطة والثروة، والإقصاء الاجتماعي والثقافي.

وتؤكد الورقة أن العدالة الانتقالية تحتل موقعًا محوريًا في فكر الإمام الصادق المهدي، لا بوصفها أداة انتقام أو تصفية حسابات، بل كمدخل لإعادة الاعتبار للضحايا، وترسيخ مبدأ المساءلة، ومنع الإفلات من العقاب، بما يعيد الثقة في مؤسسات الدولة. كما تناقش مفهوم العدالة الترميمية باعتبارها مكمّلة للعدالة الانتقالية، ووسيلة لترميم النسيج الاجتماعي، وإعادة بناء العلاقات بين المكوّنات المتصارعة.

وتفرد الورقة حيّزًا واسعًا لقضية الهوية وإدارة التنوع، مؤكدة أن فشل الدولة السودانية في إدارة هذا التنوع على أسس المواطنة المتساوية أسهم في تفجير النزاعات، وفتح الباب أمام التدخلات الخارجية. كما تربط بين السلام والتنمية المتوازنة، معتبرة أن التهميش الاقتصادي والاجتماعي ليس نتيجة جانبية للصراع، بل أحد محركاته الأساسية.

التأسيس الرابع وإعادة بناء الحزب

وفي ورقته المعنونة «التأسيس الرابع»، تناول عضو تحالف «صمود» ورجل الأعمال أسامة سيد أحمد الريح رؤية الإمام الصادق المهدي لإعادة بناء حزب الأمة، بوصفها محاولة لتجاوز أزمة الأحزاب التقليدية، واستعادة دورها في قيادة التحول الديمقراطي. وتنطلق الورقة من تشخيص نقدي عميق لأزمة الحزب، معتبرة أن الخلل يمتد إلى البنية التنظيمية، والديمقراطية الداخلية، وطبيعة العلاقة بين القيادة والقواعد.

وتوضح الورقة أن «التأسيس الرابع» لا يعني قطيعة مع الإرث التاريخي للحزب، بل إعادة قراءته وتحديثه، عبر تعزيز المؤسسية، وتوسيع المشاركة، وتجديد الخطاب السياسي، وربط الحزب بقضايا الأجيال الجديدة وقوى الثورة، بما يعيد له دوره كفاعل سياسي حيّ لا ككيان تقليدي جامد.

السودان في محيطه الإقليمي والدولي

أما الورقة الرابعة، فقد قدّمها د. عبد الحليم عيسى تيمان تحت عنوان «الأزمة السودانية: سلام واستقرار في محيطه وعالمه»، حيث ناقشت تداخل الأزمة السودانية مع محيطها الإقليمي والدولي، معتبرة أن الحرب والانقسام الداخليين لم يعودا شأنًا محليًا صرفًا، بل جزءًا من شبكة معقدة من المصالح والتدخلات.

وتؤكد الورقة أن أي مشروع للسلام والاستقرار في السودان لا بد أن يراعي هذا البعد الخارجي، دون التفريط في السيادة الوطنية، وأن يستند إلى رؤية سياسية متماسكة، تستلهم فكر الإمام الصادق المهدي في الانفتاح المتوازن، وعدم الارتهان للمحاور.

خلاصة الندوة

عكست الندوة، عبر أوراقها الأربع، محاولة جادة لاستعادة فكر الإمام الصادق المهدي بوصفه مشروعًا مفتوحًا للنقاش، لا إرثًا مغلقًا على التقديس. وقدّمت قراءة متعددة الزوايا لأزمة السودان الراهنة، ربطت بين الديمقراطية والسلام والعدالة، وبين الحزب والدولة، وبين الداخل والمحيط الإقليمي، في لحظة تبدو فيها البلاد في أمسّ الحاجة إلى أفكار تعيد تعريف الممكن السياسي، قبل البحث عن حلول عاجلة لأزمة تتجدد باستمرار.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى