شمائل النور لـ” أفق جديد”: الحرب غيرت أولوياتي

بعد اختيارها ضمن العشرة الأكثر إلهاماً في الوطن العربي


الأقلام المعروضة للبيع تفقد التاثير
النساء الأكثر حضورا في المشهد الإعلامي
أفق جديد
في زمنٍ انزلقت فيه الصحافة من موقعها كسلطة أخلاقية إلى هامش الصراع، وصار البقاء على المهنة فعلًا أقرب إلى المجازفة منه إلى الاختيار الحر، لم يعد الاعتراف المهني مسألة فردية، ولا إنجازًا شخصيًا يُعلّق في السيرة الذاتية. صار الاعتراف، في جوهره، شهادة على الصمود، وعلى قدرة الصوت الصحافي على النجاة وسط الركام. من هذا المعنى، جاء إدراج اسم الصحافية السودانية شمائل النور ضمن قائمة منصة رصيف 22 لأكثر النساء العربيات إلهامًا في عام 2025، لا بوصفه لحظة احتفاء عابرة، بل كعلامة على أن الصحافة الجادة لم تُهزم بالكامل، رغم الحرب، ورغم الانهيار، ورغم الخذلان الجماعي الذي أصاب المهنة.

اللافت أن هذا التتويج لم يصلها عبر قنوات رسمية، ولا ضمن طقوس التكريم المعتادة. جاءها كما تأتي الحقيقة في زمن الفوضى: مصادفة، وعبر الزملاء، ومن فضاء مهني فقد كثيرًا من يقينه بنفسه. هذه التفاصيل الصغيرة في لحظة الاكتشاف، تكشف جوهر التجربة كلها: صحافة بلا مظلات حماية، بلا مؤسسات حاضنة، وبلا يقين سوى الإيمان بقيمة الكلمة. لذلك، لم تتعامل شمائل مع الاختيار باعتباره تتويجًا لمسار شخصي، بل بوصفه إشارة نادرة إلى أن الصحافة السودانية، رغم اختفاء صحافتها الورقية، وتشتت صحافييها بين المنافي ومناطق الخطر، ما زالت قادرة على إنتاج معنى، وعلى لفت انتباه العالم خارج دوائر الصراع المحلي.

في بلدٍ تحوّلت فيه الحرب إلى خبر يومي، وصارت المعلومة نفسها تهديدًا للحياة، أعادت شمائل تعريف دور الصحافة لا من موقع البطولة، بل من موقع المسؤولية. لم تركض خلف التسريبات، ولم تُغوها العناوين الصاخبة، بل اختارت الاقتراب من الأرض، من حياة الناس، من الخسارات الصغيرة المتراكمة التي لا تظهر في البيانات العسكرية ولا في التحليلات السياسية. من هناك، من هذا القاع الإنساني، تشكّل صوتها، وتبلورت تجربتها، وبرز معناها.

من هذه المصادفة، يبدأ إدراكها لمعنى الاختيار. لا بوصفه لحظة مجد شخصي، بل بوصفه إشارة خافتة تقول إن الصحافة، رغم كل ما أصابها، لم تمت تمامًا بعد.
شعور متراكم
لم يكن وقع الخبر عليها ذاتيًا بقدر ما كان جماعيًا. أول تهنئة جاءت من حسن بركية، ثم تتابع التفاعل، تفاعل بدا أكبر من الاسم، وأوسع من الشخص. شعرت، كما تقول، أن الأمر تضخّم أكثر مما يجب، لكنها تفهم هذا التضخيم جيدًا. فهو نابع من شعور متراكم لدى الصحفيين والصحفيات بأن الصحافة لم تعد كما كانت، وأن المهنة التي كانت يومًا في قلب المجال العام تراجعت إلى هامش هش، وأن الصحافة الورقية التي امتلكت الكلمة الأولى أصبحت اليوم شبه غائبة، كأنها لم تكن.
هنا، يصبح الاختيار أقرب إلى إنعاش روح، لا إلى تعليق وسام. كأن القائمة لم تحتفِ بشمائل، بل احتفت بفكرة أن الصحافة ما زالت ممكنة.

تقول شمائل بوضوح إنها لم تستقبل هذا التصنيف باعتباره تكريمًا فرديًا، خاصة في ظل الوضع الكارثي الذي تعيشه الصحافة السودانية. ترى فيه اعترافًا قادمًا من خارج الدوائر المحلية المستقطبة، اعترافًا لا تحكمه الخصومات السياسية ولا الحسابات التنظيمية، ولذلك كانت قيمته أكبر. وتقرأ التفاعل الواسع مع الخبر باعتباره احتفاءً بالمهنة نفسها، بمحاولة إحياء شيء اعتقد كثيرون أنه مات أو أوشك على الموت.
إعادة ترتيب
لكن حين تنتقل شمائل للحديث عن الحرب، يتغير الإيقاع. هنا لا تعود الكلمات خفيفة، ولا الجمل محايدة. الحرب، كما ترويها، ليست حدثًا مهنيًا عابرًا، بل تجربة أعادت ترتيب كل شيء: الأولويات، اللغة، القدرة على الاحتمال.
تقول إن تجربة تغطية الحرب تحتاج لمساحات أوسع بكثير مما أُتيحت لها حتى الآن، وإنها طرحت هذا الأمر صراحة مع نقيب الصحفيين، لأن ما جرى لم يكن مجرد تغطية إخبارية، بل تجربة قاسية أضافت خبرات جديدة لكل من عملوا في مناطق الحرب أو على تماس معها، سواء في الجزيرة أو دارفور أو كردفان أو غيرها.

تشرح كيف غيّرت الحرب أولوياتها بالكامل. لم تعد السياسة بمعناها الكبير هي المركز، بل الجرائم والانتهاكات التي وقعت على الناس. في ولاية الجزيرة، حيث ركزت جزءًا مهمًا من تغطيتها، كانت قادرة على الوصول إلى مصادر على الأرض، إلى القرى والمدن، إلى التفاصيل الصغيرة التي لا تظهر في البيانات. هناك، تشكّلت تجربتها الأكثر قسوة وتميّزًا في آن واحد.

لكن الكلفة الإنسانية كانت باهظة. تعترف شمائل بأنها، مع الوقت، وصلت إلى مرحلة لم تعد قادرة فيها على مواصلة الاستقبال اليومي للمآسي كما كانت. طوال اليوم أخبار سيئة، حوادث، انتهاكات، مقاطع مصورة. تقول إنها توقفت عن مشاهدة الفيديوهات تمامًا، واكتفت بالرسائل الصوتية، وأحيانًا لا تستطيع إكمالها فورًا، فتؤجلها، تهرب منها قليلًا، قبل أن تعود لسماع المأساة. هذا الثقل النفسي، كما تقول، انعكس على قدرتها على العمل، وجعل التغطية نفسها فعلًا شاقًا يتم بصعوبة.
معارك لوجستية
وفي ظل هذا كله، لم تكن المعركة نفسية فقط، بل لوجستية أيضًا. انقطاع الاتصالات، غياب الكهرباء، النزوح الجماعي، كلها عوامل جعلت الوصول إلى المعلومة مغامرة حقيقية. تتحدث شمائل عن كيف فرض عليها هذا الواقع البحث عن مصادر مختلفة تمامًا، وعن كيف تعلّمت مهارة جديدة: فلترة المعلومة، والتحقق منها في ظل انقطاع شبه كامل للشبكات وغياب الصحفيين على الأرض وغياب القنوات الرسمية.
تقول إن المعلومة نفسها أصبحت خطرًا، ليس فقط في مناطق الاشتباكات، بل حتى في المناطق التي عاد إليها قدر من الأمان. فالمعلومة الحساسة قد تودي بحياة الصحفي، والتصنيف يمكن أن يتم بسهولة، لذلك أصبح التركيز على الوضع الميداني، على حياة الناس، خيارًا مهنيًا وأخلاقيًا في آن واحد.

من هنا، تتبلور قناعتها بدور الصحافة اليوم. ترى أن الأولوية يجب أن تكون للصحافة المحلية التي غابت قسرًا، وأن آثار الحرب على حياة الناس هي ما يجب أن يُكتب. ماذا فعلت الحرب بالمواطن؟ كيف يحاول أن يستعيد حياته؟ كيف يعيش بعد أن فقد مصادر دخله ووسائل إنتاجه؟
تقول إن الصحافة لا تملك الآن رفاهية الغرق في السياسة، لأن ذلك لن يقود إلا إلى مزيد من الاستقطاب والتصنيف، ولن يفيد المهنة. الفرق الحقيقي، من وجهة نظرها، هو أن تكون الصحافة صوت الأغلبية المتضررة، صوت المواطن الذي وقع عليه الضرر مرة ومرتين وثلاثًا ولا يزال يدفع الثمن.
حضور نسوي
في هذا السياق، تلاحظ شمائل أن النساء أصبحن أكثر حضورًا وتأثيرًا في المشهد الصحافي. تقول، بلا مواربة، إن النشاط الصحافي المؤثر في الفترة الأخيرة تقوده أقلام وأصوات نسائية، سواء كمراسلات أو كصحفيات في المنصات الرقمية. لكنها لا ترى في ذلك غيابًا للرجل، بقدر ما ترى أن النساء أقل استجابة للاستقطاب السياسي، وأقل ارتباطًا بالتنظيمات، وهو ما يخفف الحمولة الأيديولوجية ويفتح طريق الاستقلالية.

غير أن هذا الحضور، كما تعترف، لا يأتي بلا ثمن. كونكِ امرأة في مجتمع مثل المجتمع السوداني يعني أن الخطأ لا يُحسب خطأً مهنيًا، بل خطيئة. الخصومة مع المرأة، كما تقول، تتجاوز العام إلى الخاص، وتُستخدم فيها أدوات الأخلاق والشرف لكسر الصوت وإسكاته. هذا ثمن إضافي تدفعه النساء في المجال العام، وفي الصحافة على وجه الخصوص.

وتصل شمائل في ختام شهادتها إلى ما يشبه الوصية. تقول إن الصحافة ليست مهنة للرزق السريع، ولا وسيلة للنجومية، ولا سلاحًا يُعرض في السوق. من يدخل الصحافة باعتبارها مصدر أكل عيش فقط، يختار الطريق الخطأ منذ البداية.
الصحافة، في نظرها، تمنح في بداياتها قيمة أكبر من العائد المادي، وتتطلب صبرًا على مرّها قبل أن تمنح ثمارها. وهي مهنة قائمة على منظومة قيم، فإذا انهارت هذه القيم، انهارت الصحافة نفسها. وتختم بعبارة حاسمة: كل قلم يعرض نفسه للبيع أو الشراء، يفقد تأثيره تمامًا، وهذه مسألة لا تحتاج إلى جدال.
شهادة شمائل النور لا تُقرأ بوصفها تجربة صحافية نجت من الحرب، بل بوصفها دليل إدانة كامل لواقع الصحافة السودانية في لحظتها الأخطر. فهي لا تحكي فقط عن مهنة تُمارَس تحت النار، بل عن منظومة انهارت: مصادر انقطعت، مؤسسات غابت، حماية تلاشت، وحدود بين الصحافة والخطر تآكلت حتى صار مجرد امتلاك المعلومة فعلًا محفوفًا بالموت.
سؤال وجودي
في هذه الشهادة، تتكشّف الصحافة السودانية كضحية مزدوجة: ضحية حرب دمّرت الجغرافيا والبنية التحتية، وضحية سياق سياسي وأمني جعل من الحقيقة عبئًا، ومن الصحافي هدفًا، ومن الصمت خيارًا أقل كلفة. حين تقول شمائل إن الصحافة لا تملك رفاهية السياسة، فهي لا تتخلى عنها، بل تُعرّي خواء المشهد الذي اختُزل فيه العمل الصحافي إلى اصطفاف وتصنيف، بدل أن يكون فعل مساءلة وكشف

ما تقوله شمائل، هو أن الصحافة السودانية اليوم تقف أمام سؤال وجودي: إما أن تعود إلى الإنسان، إلى حياته اليومية المدمَّرة، إلى حقه في الماء والدواء والأمان، أو أن تواصل الانزلاق إلى الهامش، حيث تتحول إلى صدى للبيانات أو وقود للاستقطاب. في زمن فقدت فيه الدولة احتكار العنف، وفقدت المؤسسات شرعيتها، تصبح الصحافة آخر ما يمكن أن يُبقي على فكرة المجال العام حيّة، إن هي اختارت ذلك.

وتكشف الشهادة أيضًا عن تحوّل لافت في مركز الثقل داخل المهنة، حيث تتقدم النساء إلى الواجهة لا بوصفهن استثناءً، بل بوصفهن حاملات لنمط مختلف من العمل الصحافي: أقل أيديولوجية، أقل ضجيجًا، وأكثر التصاقًا بالواقع. غير أن هذا التقدّم يتم فوق أرض ملغومة، حيث يُحاسَب صوت المرأة بميزان أخلاقي مضاعف، ويُستدعى الخاص لكسر العام، في محاولة دائمة لإعادة الصحافة إلى موقع الخضوع.
تحديات الصحافة
في النهاية، لا تقدّم شمائل النور وصفة خلاص، ولا تدّعي البطولة، لكنها تضع المهنة أمام مرآتها بلا رتوش. تقول إن الصحافة ليست أكل عيش، وتعرف تمامًا ثمن هذه الجملة في بلد يتآكل فيه الاقتصاد وتضيق فيه الخيارات. لكنها، في الوقت نفسه، تذكّر بأن كل تنازل أخلاقي صغير هو خطوة إضافية نحو فقدان التأثير، وأن كل قلم يُعرض للبيع يساهم في دفن ما تبقى من الثقة العامة.

هذه الشهادة ليست نهاية نص، بل بداية مساءلة. مساءلة للصحافة السودانية: هل تريد أن تبقى شاهدًا حيًا على الخراب، أم مجرد أثر جانبي له؟ وهل تملك الشجاعة لتعيد تعريف نفسها كموقف أخلاقي في زمن السلاح، أم ستكتفي بدور المتفرج حتى تُمحى بالكامل؟
في صوت شمائل، لا إجابة جاهزة، لكن السؤال صار واضحًا، ومعلّقًا في الهواء، بحدة لا تسمح بالتجاهل.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى