تحرير المدن وإحتلال البيوت

حيدر المكاشفي
كشف القيادي بحزب الأمة القومي وتحالف (صمود)، علي فاعوم، عن قيام قوة مسلحة غير نظامية باقتحام منزله الأربعاء الماضي، في ولاية شمال كردفان، ومطالبة أسرته بإخلائه خلال 24 ساعة، بعد أن عرّفت نفسها في البداية بأنها لجنة أمنية، من دون إبراز أي أوامر قانونية أو مستندات رسمية. وقال فاعوم، في مقابلة مع راديو دبنقا إنه كان خارج البلاد وقت الحادثة، موضحاً أن القوة دخلت المنزل مساء أمس وأبلغت أسرته بأن البيت (مصادَر)، وطالبتهم بإخلائه بحجة أن ضابطاً سيصل لاحقا للسكن فيه. وأضاف أن القوة حضرت وهي مدججة بالسلاح وقدّمت نفسها للأسرة على أنها لجنة أمنية، غير أنها لم تُظهر أي إخطار رسمي أو قرار صادر من جهة سيادية أو قانونية، مشيراً إلى أن الاتصالات اللاحقة مع أسرته كشفت أن القوة التي نفذت العملية ليست قوة نظامية. وأفاد فاعوم بأن أسرته أبلغته صباح الخميس أن القوة التي اقتحمت المنزل غير معروفة الهوية، لكنه رجح أن تكون تابعة لما يعرف بلواء البراء بن مالك أو لكتائب إسلامية أخرى، مؤكداً أن الأشخاص الذين حضروا لم يمثلوا أي جهة قانونية معروفة، ولم يقدموا مستندات تخوّلهم تنفيذ الإخلاء. ووصف فاعوم في مقابلة مع راديو دبنقا ما جرى بأنه تحرك ذو طابع سياسي لا يستند إلى أي قرار قانوني أو إجراء سيادي، لافتاً إلى أن التفاعل الإعلامي الواسع مع القضية، إلى جانب تحركات محامين وناشطين، وضع الجهات التي تقف خلف الخطوة في موقف حرج، وأوقف تنفيذ أي إجراء إضافي حتى الآن. وأشار إلى أن المنزل تقيم فيه والدته المسنّة، البالغة من العمر نحو 80 عاما، إلى جانب زوجته وأطفاله، إضافة إلى أقارب آخرين يقيمون في جزء من المنزل خلال فترة الحرب، محذراً من خطورة استهداف المدنيين وأسرهم عبر إجراءات قسرية. وفي سياق متصل، أوضح فاعوم أنه اضطر إلى تغيير مكان إقامته أكثر من مرة داخل البلد الذي لجأ إليه، على خلفية مخاوف أمنية، كما تقدّم بطلب حماية ولجوء سياسي، غير أن الإجراءات لم تُستكمل حتى الآن، ما فاقم من وضعه القانوني والإنساني، خاصة في ظل انتهاء صلاحية جواز سفره ورفض طلبات استخراج مستندات رسمية له ولأطفاله. وأشار فاعوم إلى أنه غادر السودان منذ الشهر الخامس لاندلاع الحرب، مؤكداً أن ما يتعرض له داخل السودان وخارجه لن يثنيه عن مواقفه السياسية.. من جهة أخرى وفي الاطار ذاته، قال عمر الفكي، شقيق عضو مجلس السيادة السابق والقيادي بتحالف صمود محمد الفكي، إن قوة عسكرية وضعت يدها على منزل أسرتهم الكائن بحي عطرون ، أحد أقدم أحياء مدينة أم روابة بولاية شمال كردفان، وأمهلت الأشخاص الذين يقيمون في المنزل بضعة ايام لإخلائه. وأوضح الفكي، في تصريح لـ(التغيير)، أن المنزل يعود لجدهم سليمان ود التوم، الذي توفي عام 1962 أثناء عودته من أداء فريضة الحج، ودُفن بمدينة عطبرة، مشيراً إلى أن البيت ظل منذ ذلك الحين منزلاً عائلياً مفتوحاً للأسرة والضيوف، ولم يُؤجَّر أو يُستغل تجارياً في أي وقت. وأضاف أن الأسرة ظلت تقيم في المنزل حتى مغادرتها مدينة أم روابة عام 2018، قبل اندلاع ثورة ديسمبر، مؤكداً أن البيت بقي بعد ذلك مفتوحاً وتحت رعاية الجيران وأصدقاء الأسرة، مع الحفاظ على تقاليد اجتماعية قديمة درج عليها أهل الحي، من بينها إفطارات الجمعة والأنشطة الاجتماعية. وأشار إلى أن أحد أصدقائه المقيمين في المنزل أبلغه بحضور ضابط من الجيش قام بكتابة علامة حجز على جدار المنزل بالبوهية، وأفاد بأن العقار (محظور)، مع توجيه المقيمين بمغادرة المنزل خلال يومين، رغم وجود فرد من شرطة المرور، برتبة مساعد يقيم في المنزل مع آخرين. وأكد الفكي أن المنزل لا تعود ملكيته لمحمد الفكي، ولا علاقة له بأي خلافات سياسية، معتبراً ما جرى تعدياً على ملكية خاصة تعود لأسرة معروفة في المدينة، ولها تاريخ اجتماعي مفتوح لكل سكان الحي بمختلف توجهاتهم. وأضاف أن الأسرة سبق أن تعرضت لانتهاكات مشابهة، مشيراً إلى أن منزلهم في الخرطوم تعرض للكسر والنهب عقب دخول الجيش المدينة، وتمت مصادرة أثاثه بزعم أنه مسروق..
في ما جرى في المثالين أعلاه (منزل فاعوم ومنزل اسرة المرحوم الفكي)، لا يحتاج المرء إلى كثير عناء ليدرك أننا لا نعيش فقط أزمة حرب، بل أزمة سلطة تتصرف بعقلية الغنيمة، حيث يتحول البيت إلى (مكافأة)، والمعارضة إلى (عقار شاغر)، والقانون إلى ملصق بوهية على جدار. فما حدث مع منزل القيادي بحزب الأمة القومي علي فاعوم، ومنزل أسرة محمد الفكي، ليستا حادثتين معزولتين ولا سوء تقدير ميداني، بل سلوك استبدادي متكرر، يعيد إنتاج أسوأ تقاليد الأنظمة الشمولية، مع فارق واحد هو أن الفاعل هذه المرة لا يكلف نفسه حتى عناء إصدار قرار أو اصطناع غطاء قانوني. ففي حالة فاعوم، اقتحمت قوة مسلحة غير نظامية المنزل، عرّفت نفسها بداية كلجنة أمنية، ثم طالبت الأسرة بإخلائه خلال 24 ساعة بحجة أن ضابطاً سيصل لاحقاً للسكن فيه، دون أي أمر قضائي أو قرار سيادي، وفي غياب صاحب المنزل نفسه.. أما منزل أسرة محمد الفكي، فقد كتبت عليه عبارة (محظور) بالبوهية، وكأننا أمام مخزن مهجور أو أرض متنازع عليها، لا بيتاً عائلياً عمره عقود، مفتوحاً للحي كله قبل أن يغلقه منطق السلاح.. السخرية المؤلمة هنا أن هذه الممارسات تُبرَّر ضمنياً باسم (التحرير) و(بسط الأمن). فمن الواضح، وفق هذا المنطق، أن تحرير المدن يبدأ بتحرير البيوت من أصحابها، وأن الأمن لا يكتمل إلا حين تشعر الأمهات المسنّات، والأطفال، وأقارب النازحين، بأنهم ضيوف مؤقتون في منازلهم، ريثما يقرر صاحب البندقية من يسكن وأين.. وتاريخ السودان القريب لا يخلو من أمثلة مشابهة. في عهد نظام الإنقاذ، صودرت منازل معارضين ونقابيين تحت لافتة (التحلل) أو (ممتلكات الدولة)، وأُسكنت فيها كوادر موالية، أو تُركت كرسائل ترهيب صامتة. وبعد انقلاب 25 أكتوبر، تكررت حملات الاستيلاء غير القانوني على مقار أحزاب ومنظمات، وجرى التعامل مع الملكية الخاصة كامتداد لمزاج السلطة لا كحق مصون بالقانون. الجديد اليوم أن المصادرة لم تعد حتى تحتاج إلى قرار إداري أو لافتة رسمية يكفي حضور قوة مسلحة وطلاء حائط. هذه الممارسات ليست فقط انتهاكا لحقوق الملكية، بل خطاب كراهية عملي فهي تفترض أن المعارض لا يستحق الحماية، وأن أسرته امتداد لنشاطه السياسي، وأن البيت نفسه (مدان) بالموقف. إنها لغة استبداد لا تقال بالكلمات، بل تكتب على الجدران، وتُنفَّذ بالسلاح. الأخطر من ذلك أن هذا السلوك، إذا تُرك بلا مساءلة، لا يقف عند حدود المعارضين المعروفين. فاليوم بيت فاعوم والفكي، وغدا بيت أي مواطن يُصنَّف بوشاية أو ظن في الخانة الخطأ. عندها لن يبقى من (الدولة) سوى ذاكرة قديمة، ومن (القانون) سوى حكاية تُروى للأطفال. إن ما يحدث ليس زلة عسكرية ولا تجاوز أفراد، بل اختبار حقيقي لمعنى السلطة بعد الحرب، فإما سلطة تحمي الناس وبيوتهم، أو سلطة تسكن بيوتهم وتطردهم منها. وبين الخيارين، يسقط آخر قناع عن الاستبداد، مهما تغيّر اسمه أو رايته..ولا غرابة ولا عجب إذا كانت السلطة القائمة في اعلى مراقيها ومراتبها تحكم البلاد الآن بوضع اليد وشغارها (المجد للبندقية).





