الكوارث الصحية في الخرطوم.. ما الذي يعوق جسور الإنسانية؟

الخرطوم – أفق جديد
لم تعد المعارك وحدها من تقتل؛ ولم يعد الموت يأتي محمولًا على ظهر دبابة، انفجار دانة أو قصف طيران، كما كان يحدث منذ بداية حرب الخامس عشر من أبريل 2023 وحتى الآن.
عشرات الأسباب هنا في الخرطوم تقود المرء إلى حتفه، حيث تتكالب الأزمات على مواطنين أقعدتهم ظروفهم الاقتصادية عن الخروج صوب مناطق آمنة، تتوفر فيها الخدمات العلاجية، فكان البقاء خيار من صعبت لديه خيارات الرحيل بعيدا.
الخدمات الصحية في الخرطوم تضيق مساحاتها باتساع دوائر المستفيدين من الخدمات الطبية والصحية والرعاية الأولية، ليقضي المئات نحبهم بالكوليرا، والإسهال المائي، وحمى الضنك، في مناطق بحري وشرق النيل، مع صمت مطبق من المجتمع الدولي والمحلي تجاه الأزمات الصحية والأوبئة التي تواجه العالقين في حرب السودان، وبالرغم من تصريحات طرفي النزاع بضمان سلامة المواطنين، تتعثر الجهود المبذولة لاحتواء الأزمات الصحية في مناطق سيطرة الطرفين، وتغلق الطرق أمام الجسور الإنسانية.

تفشي الوبائيات
المتحدثة الرسمية لغرفة طوارئ بحري، تبيان فتحي، أكدت أن حجم الكارثة الصحية في المنطقة كبير جدًا، نافية في الوقت ذاته وجود إحصائية دقيقة من المكتب الطبي، لانقطاع وسائل التواصل على الأرض، حيث تنتشر الكوليرا، والدوسنتاريا، وحمى الضنك، بسبب تلوث مياه الشرب خاصة في منطقة (العزبة) وعدم صلاحيتها للاستخدام الآدمي، وكانت السبب المباشر في انتشار الأمراض المعوية.
وتمضي تبيان في حديثها لـ”أفق جديد”، إلى أن المناشدات التي تطلقها الغرفة تستهدف طرفي الحرب لتوفير ممرات آمنة لوصول المساعدات الصحية، إذ أن المنطقة تعاني من انعدام تام للأدوية.

وضع سيء في بحري
أزمة مواطني السامراب وشمبات شمالي مدينة بحري وشرق النيل ليست الأولى، وربما ليست الأخيرة في ظل استمرار الحرب، وغياب التدخلات الإنسانية.
غرفة طوارئ بحري أكدت أن الوضع الصحي في مدينة بحري يسوء بشكل يومي، بسبب انتشار الكوليرا، والدوسنتاريا، وحمى الضنك، كما أن هناك نقصًا حادًا في العلاجات والأدوية والمحاليل الوريدية، وعدم وجود مياه صالحة للشرب، مما يزيد من سوء وتفاقم الوضع الصحي.
وناشدت الغرفة في بيان، طرفي النزاع وكل الجهات المعنية بتوفير ممرات آمنة لإدخال الأدوية إلى بحري، كما ناشدت جميع المنظمات الإنسانية للتدخل العاجل وإنقاذ المواطنين.
الأوضاع ذاتها أكدها مصدر طبي بمستشفى شرق النيل لـ”أفق جديد، بأن المنطقة شهدت المئات من الإصابات بالكوليرا وحمى الضنك، وانعدام تام للأدوية التي وصلت أسعارها في السوق السوداء مبالغ خرافية، ما أدى لوفيات بأعداد كبيرة، وناشد المنظمات الإنسانية بإيصال الأدوية لاسيما المحاليل الوريدية.
حسب بيان لجنة طوارئ بحري، أن ما يحدث في (شمبات الأراضي) كارثة إنسانية وصحية، بسبب انتشار الأمراض والأوبئة، فالكوليرا وحمى الضنك تسببتا في تسجيل الكثير من حالات الوفيات في الفترة الأخيرة، إذ لا تقل أعداد الوفيات في اليوم عن الثلاثة، حيث أصبحت ميادين الأحياء عبارة عن مقابر جماعية وذلك نسبة لصعوبة الحركة.
تقرير تحليل آبار المياه بمنطقة (العزبة) شرق بحري أكد أن الآبار تحتوي على أملاح، وتتفاوت الآبار في الرقم الهيدروجيني، وتحتوي على ميكروبات طفيلية وجراثيم بكتيرية، تنتمي الطفيليات إلى قسم (طفيليات الأمعاء)، التي تشكل خطرًا وتفتك بالإنسان، وهي السبب الرئيسي في انتشار الاسهالات، كما أن بعض الآبار تحتوي على بكتريا، وهي سبب رئيسي في ظهور حالات الكوليرا، والديدان المعوية التي تتسبب في الإسهالات.

إدارة منهجية للملف الصحي
الناطق الرسمي بوزارة الصحة ولاية الخرطوم د. محمد إبراهيم، ذهب إلى أنه منذ اندلاع الحرب في الخامس عشر من أبريل 2023، ظلت الوزارة تدير الملف الصحي عبر لجنة الطوارئ بمنهجية إدارة الأزمة، بتوجيه كافة الإمكانيات وترشيدها لتقوية النظام الصحي بمحاوره المتمثلة في تدريب الكوادر، وتوفير الإمداد الدوائي والأجهزة الطبية، وتقوية نظام معلوماتي متكامل، ومتابعة الوبائيات المحتملة جراء الحرب، إضافة إلى تغطية محليات الولاية السبع، حتى مناطق الاشتباك والاقتتال.
وأكد إبراهيم في تصريح لـ”أفق جديد”، أن الوزارة تقدم خدماتها حتى في المناطق التي تقع تحت سيطرة قوات الدعم السريع، باعتبار أن بها مواطنين، وتم تحريك قافلة شملت، السامراب، الكدرو الدروشاب، السلمة، الكبيراب، الفكي هاشم والخليلة وكل الريف الشمالي.
وفي رده على تساؤل “أفق جديد”، فيما يخص جنوب بحري أوضح قائلا: “لم نتمكن من دخول منطقة شمبات نسبة للظروف الأمنية، والقافلة تضم مدنيين ولا يمكن الدخول لهذه المناطق دون تصديق أمني، لكن تم توصيل الإمداد الدوائي، أما بالنسبة لشرق النيل يسير فيها العمل بشكله الطبيعي ويصلها الإمداد الدوائي، وهذه المناطق يتم فيها العمل بكتمان تام تخوفًا من تعريض الكوادر للخطر.”

إعاقة وصول المساعدات
ترى ما الذي يعوق وصول المساعدات الطبية؟ تساؤل طرحناه على أحد مديري القطاع الطبي بقوات الدعم السريع في منطقة بحري (فضل حجب اسمه)، وأجاب قائلا: “تتسارع جهودنا لإنقاذ الوضع الصحي في المنطقة، والجميع يعلم تعنت الطرف الآخر فيما يخص الشأن الإنساني، وصعوبة وصول المساعدات ودخول المنظمات للخرطوم بسبب العمليات الحربية الدائرة الآن، والطيران الذي يستهدف هذه المناطق، وحادثة الاعتداء على بعثة الصليب الأحمر في منطقة الشجرة بالخرطوم ما زالت عالقة في الأذهان.”
وأضاف، “مع ذلك نحاول بكل ما نملك من قوة إمداد المراكز العلاجية ببعض الأدوية والإمكانيات العلاجية المتوفرة في المنطقة، التي تتم أحيانًا عبر مساهمات من قيادات المنطقة.”
وتابع، “بالنسبة لنا في قوات الدعم السريع، لا مانع لدينا في فتح ممرات آمنة لدخول الأدوية، وهذا ما أكده القائد وتنفيذًا لمخرجات جنيف حول حماية المدنيين.”
تدهور الأنماط الغذائية
خبيرة التغذية سلمى عبدالهادي، ذهبت إلى أن الحرب تسببت في تدهور الأنماط الغذائية للملايين من العالقين في مناطق النزاع، وليس الخرطوم وحدها، ما جعلهم عرضة للأمراض التي كان من الممكن احتواؤها بالتغذية الجيدة، وضعف المناعة وغياب الرعاية الصحية أسهم في تفشي الكوليرا وحمى الضنك، ووفاة المئات من أصحاب الأمراض المزمنة.
وعن دخول المنظمات الصحية ذكرت في حديثها لـ”أفق جديد”، “دخول المنظمات والمساعدات الإنسانية لا يعتبر حلا جذريا للأزمة دون ضمانات الاستدامة والتغذية السليمة. توقف الحرب هو الضامن الوحيد، ونناشد المجتمع الدولي وطرفي الحرب تجنيب المواطنين تداعيات الحرب.”
جولة “أفق جديد”، على الصيدليات، أكدت انعدام عدد من الأدوية والمحاليل الوريدية، حيث أفاد صيدلاني بدخول الأدوية للسوق السوداء، وتضاعف أسعارها عشرات المرات، وأصبح الحصول عليها شبه مستحيل.
وبين بين بقاء تكتنفه المخاطر الصحية، وخروج موجع نحو النزوح واللجوء، تتعثر الحياة هنا، والكل منشغل بحربه ضد الآخر، ومؤسسات أممية يستعصي عليها ما أغلقته الحرب من منافذ. ترى هل تظل الأوضاع الصحية كما هي رهينة بأن تضع الحرب أوزارها، أم في الأفق متسع لأن تحلق إرادة الإنسانية لتجبر خواطر وآلام المكتوين بنار الحرب؟
وتقول الأمم المتحدة إن السودان الذي كان، حتى قبل الحرب، من أفقر بلدان العالم، يشهد “واحدة من أسوأ أزمات النزوح في العالم، وهو مرشح لأن يشهد قريبًا أسوأ أزمة جوع”.
وتتصاعد دعوات أممية ودولية لإنهاء الحرب في السودان، بما يجنب البلاد كارثة إنسانية بدأت تدفع الملايين إلى المجاعة والموت جراء نقص الغذاء بسبب القتال.
ومنذ منتصف أبريل/نيسان 2023 يخوض الجيش السوداني و”الدعم السريع” حربًا خلّفت نحو 20 ألف قتيل وأكثر من 14 مليون نازح ولاجئ، وفقا للأمم المتحدة.

زر الذهاب إلى الأعلى