ودغلوقة… تودِّع 600 عام من السلام
الجزيرة- “أفق جديد”
600 عام أو يزيد، عمر تلك القرية التي ربما لم يسمع باسمها سوى عدد محدود من الناس، يعيش أهلها المنحدرون من جدٍّ واحدٍ في سلام دائم، لم تشهد طوال تاريخها جريمة قتل قط، قليل من السرقات وبعض من الخلافات التي تُحَلُّ بالجودية وتدخُّل الكبار من أهلها… هكذا تمضي الحياة يتوارثونها جيل عن جيل.
ودغلوقة، لا تسمع فيها غير صوت الأذان للصلاة، أو جارة تنادي جارتها “تشحد ليها في طايوق”، الحياة هناك بحسب وصف أحد أبنائها المتعلمين، مشهد واحد مكرر على تلك السنوات، عام يتكرر في الآخر وجيل يسلمها للآخر، الفروقات بين الأجيال والسنوات لا تكاد تكون ملحوظة، ويمضي قائلاً نعم تطورات حدثت في التعليم المباني… وغيرها في بعض مناحي الحياة ولكنها ظلت ود غلوقة حتى يوم الجمعة إذ نودي للصلاة فيه ودخل الناس يرتدون البيض إلى داخل المسجد الوحيد في القرية وشرع الإمام في الخطبة.
وجوم وخوف
كان الجميع واجفاً، ينتظر شيئاً ما سيحدث، وفد إلى القرية بعض سكان القرى الأخرى التي اجتاحها “الجنجويد” -والمفردة للمتحدّث وليست للمجلة-.
ويمضي عبد الرحمن 67 عاماً قائلاً، نعم ما حدث لا يمكن تصوره أبداً فـ ود غلوقة لم تكن محل شر أبداً ولا يوجد فيها أو حتى بالقرب منها مسلحون، الكل هنا سلاحه الكلمة الطيبة وما يحفظ في قلبه من آيات قرآنية.
أما عبد المنعم أبو إدريس نقيب الصحفيين فيقول بأسى لـ”أفق جديد” إنها بلدتي التي فيها عشت وبين حيطانها نشأت وترعرت وتربيت.
ويضيف ود غلوقة التي يسكنها حوالى 3 آلاف نسمة وجميعهم ينتمون لجد واحد، وتشير الروايات المتداولة -بحسب نقيب الصحافيين- إلى أنها تأسست قبل أكثر من 600 عام وظل أهلها يعملون بالرعي والزراعة المطرية حتى جاء مشروع الجنيد في عام 1959م فتحولوا إلى مزارعين به، مما أسهم في حالة الاستقرار وتطور الخدمات.
وقد أحدث تغيير نمط الحياة فيها نهضة تعليمية كبرى تأسيساً على تعلّق أهلها بدراسة القرآن، مما إنعكس على حالة السلام الاجتماعي إذ أن القرية في كل تاريخها المعلوم لم تشهد جريمة قتل واحدة.
ويستمر أبو إدريس سارداً الأحداث بقوله مع دخول ميليشيا الدعم السريع إلى ولاية الجزيرة في ديسمبر 2023م، ظلت آمنة مثل أغلب بقية مناطق شرق الجزيرة حتى انسلخ أبو عاقلة كيكل عن الدعم السريع.
وهنا تتفق جميع روايات ضحايا حملة الانتقام التي نفذها “الدعم السريع” على أهل شرق الجزيرة. ويقول أبو إدريس: “هاجم الدعم السريع تمبول والقرى المجاورة لها فنزح إليها سكان قرية ود الهميم 3 كيلو مترات شمال شرقها وجزء من سكان عد الخضر 3 كيلو مترات شرقها ومع امتداد الهجمات غرباً نزح إليها سكان من قرى العزيبة والصقيعة والجنيد الحلة، واكتظت منازل القرية ومدارسها ومساجدها بعدد خمسة أضعاف سكانها”.
هدوء ما قبل العاصفة
مرت أربعة أيام هادئة إلا من أصوات الأواني لصناعة الطعام لأهل القرى ودعواتهم في صلواتهم، وفي يوم الجمعة 26 أكتوبر عقب الصلاة اجتاحت القرية سيارات الدعم السريع وأخذت تطلق النار عشوائياً واحتجزت عدداً من شباب القرية مهدّدة بقتلهم حال لم يتم إرشادهم على الأموال وأماكن السيارات والذهب.
ويضيف نقيب الصحفيين، تم نهب القرية بالكامل، كل السيارات والأموال التي طالتها أياديهم، ورغم ذلك لم يوقفوا إطلاق النار العشوائي. بل لم يكتفوا بذلك ولكنهم أمروا سكان القرية بالمغادرة وأطقوا النار على صهاريج مياه القرية وأخذوا ألواح الطاقة الشمسية التي تولد الطاقة لعمل محطتي المياه.
تهجير قسري
أُخرج المواطنون من منازلهم قسراً فيمم أهالي شمال القرية باتجاه الشمال بمحازاة الترعة الرئيسة لمشروع حداف ود الفضل الذي يقع غرب وشمال تمبول، بينما غادر سكان الجزء الجنوبي شرقاً وقضى السكان نساءً ورجالاً وأطفالاً وكبار سن ليلتهم في العراء، وعند الصباح بدأت رحلة قطعها البعض في يومين وآخرون في ثلاثة، إلى المناطق الأكثر أماناً.
خاتمة
وينهي أبو إدريس حديثه لـ”أفق جديد”، منذ السادس والعشرين من أكتوبر -ولأول مرة في تاريخها- القرية خالية تماماً من السكان لا يوجد فيها سوى أزيز سيارات الدعم السريع وأصوات حفيف الأشجار والحيوانات التي يتعالى صوتها كأنها تسأل عن أصحابها.