الهلالية… أرض الموت والدمار
الموت… أو الموت دونه الخيارات معدومة، انقبضت النفوس وجفت القلوب والأنباء تترى سقطت مدني، الحصاحيصا، ومن رفاعة يزداد الترقب، ترتفع دقات القلوب بوصول أول تاتشر تابع للدعم السريع إلى المدينة، التي شهدت شرارات الثورة الأولى وبدايات المقاومة السلمية وكسر هيبة سلطة الإنقاذ عندما قذف ابن المدينة “شرف محمد زين العابدين” مساعد رئيس الجمهورية وقتها ورجل النظام القوي د. نافع علي نافع بالحذاء في وجهه.
لم تستسلم الهلالية لقدرها كما بقية المدن، ودخلت على الفور في مفاوضات مع القوة التي وصلت إلى المدينة -بحسب من استنطقنا من أبناء المدينة- انتهت باتفاق تم بموجبه الحفاظ على الأمن والاستقرار لفترة امتدت لقرابة العام، حيث كانت تسير الحياة بشكل معقول، إلى أن حلت الكارثة بإعلان القائد في الدعم السريع أبو عاقلة كيكل انضمامه للجيش.
الإثنين الأسود
الإثنين 28 أكتوبر لم يكن كما الأيام التي سبقت، كانت المدينة هادئة لكنها تعيش على الإشاعات بعد أن بدأت حملات “الدعامة الانتقامية” على شرق الجزيرة.
وتقول محدثتنا سامية الصديق، في صباح ذلك الإثنين فوجئ مواطنو الهلالية بهجوم كبير من “الشفشافة” قدَّره البعض بما لا يقل عن ثلاثة آلاف فرد بعضهم يمتطي الدراجات النارية وآخرون سيارات مدنية، حاول المواطنون مقاومتهم فأطلقوا النار قُتل على الفور عشرة من أبناء المدينة، بدأت النداءات في المساجد بإيقاف المقاومة لأن القوة المهاجمة كبيرة، إضافة الى أن المدينة لا يوجد بها أصلاً مسلحون ولم تنخرط في دعوات الاستنفار لاتفاقها السابق مع الدعم السريع “أتركونا في حالنا وسنترككم”.
تجمع المواطنون والذين يقدّر تعدادهم بما لا يقل عن ثلاثين ألف مواطن في ثلاثة مساجد كبيرة معروفة، تحت حماية القوة الصغيرة من الدعم السريع والتي كانت موجودة قبل الأحداث بينما انشغلت القوة الجديدة بنهب وسلب الممتلكات، لم يتركوا شيئاً يمكن أن يحمل ولم يحملوه، العربات الأموال، ألواح الطاقة الشمسية وحتى الأثاث… استباحوا المدينة بشكل كامل.
وتنفي سامية -وهي شاهدة عيان على ما جرى في الأسبوعين الأخرين بالهلالية- ما راج عن حدوث أية حالات اعتداء بدني أو جنسي سوى الشهداء العشرة الذين سقطوا في بداية الهجوم، ويتفق مع الرواية “الواثق” وهو أيضاً من الهلالية تمكّن من الخرج بعائلته إلى شندى بعد أن دفع ما لا يقل عن أربعة مليارات جنيه سوداني لبعض جنود الدعم السريع فأوصلوه إلى شندي عبر طرق ملتوية، قائلاً إلى أن خرجنا لم تحدث اعتداءات ولكن مجموعة “الشفشافة” ما زالت مسيطرة على المدينة ولا تزال عمليات السلب والنهب كذلك مستمرة، وأيضاً هم من ينقلون الراغبين في الخروج من الهلالية بمبالغ كبيرة جداً، لافتاً إلى أن العربة التي استأجرها لإخراجه من الهلالية تخص ابن خالته تم الاستيلاء عليها، وأردف بحزن بائن “يقلعوا عربيتك ويأجروها ليك عشان تطلع” ما أعتقد في ذل وإهانة أبلغ من هذه.
وبدوره يؤكد الأمين العام لمؤتمر الجزيرة (كيان مدني) المُبر محمود، ما نفاه اثنان من أبناء المنطقة، معلناً حدوث أكثر من حالة اعتداء جنسي من قِبل قوات الدعم السريع، وقال إنه تم تسجيل أكثر من حالة عنف جنسي ضد الفتيات في الهلالية بعضهن ما زلن محتجزات في المدينة، كما نهبت قوات الدعم السريع أكثر من ثماني عشرة طاحونة دقيق ورحلتها إلى أماكن أخرى.
ووفقاً له، تفرض “الدعم السريع” رسوماً تبلغ مليون جنيه (500 دولار) نظير الخروج من الهلالية إلى منطقة أم ضواً بان بولاية الخرطوم التي تقع أيضاً تحت سيطرة قوات الدعم السريع، و”تبتز” مالياً النازحين الذين تجاوز عددهم 20 ألفاً بطلب فدية مقابل المغادرة، في ظل عدم وجود تدخل لأية منظمات إنسانية في مناطق سيطرتها.
الفرار من الموت إلى الموت
بعد أسبوعين من البقاء في المساجد بدأت تنتشر وسط السكان حالة من الإسهالات المائية الشديدة ومعها كانت الفاجعة الكبرى حيث بات الموت في كل مكان، وباتت الجثث تدفن بـ”الجملة” في مقابر جماعية، فإذا توفي شخص يترك لفترة حتى يتم تجميع عدد أكبر ليتم دفنهم مجتمعين.
اختلفت الروايات ما بين تسمم غذائي غير متعمد وتسميم متعمد لمصادر المياه، وبما أن للدعم السريع تاريخاً مع الأخيرة هذه إذ اتّهمته حركات دارفور من قبل باستخدام ذات السلاح في دارفور وعممت في مايو 2021 بياناً اتّهمت الحكومة حينها بتعمد تسميم مصادر المياه، غير أن مصادر من داخل الهلالية، استبعدت الأمر تماماً ودللت على ذلك بالقول إن الإسهالات المائية بدأت بعدد محدود من الناس وأخذت في الانتشار مما يعني أنها مرض ينتقل بالعدوى وليست تسمماً من مصدر خارجي، مشيرة إلى أنها بلغت ذروتها أيام الإثنين والثلاثاء والأربعاء من الأسبوع الماضي، إذ كنا ندفن في اليوم الواحد ما لا يقل عن 50 شخصاً.
وزادت المصادر أن الأمر متعلق بتجمع عدد كبير من الناس في أماكن محدودة، مما أدى لتردٍ كبيرٍ في البيئة المحيطة، وكذلك تردٍ في الخدمات المقدمة، أدى إلى انتشار المرض الفيروسي والراجح أنه كوليرا.
وباستفسارنا لقوات الدعم السريع أحالونا إلى أحد الضباط الذين زاروا الهلالية عندما انتشر خبر التسمم الغذائي ووقفوا على الأوضاع، فأجابنا -مفضلاً عدم ذكر اسمه لما أسماه بالدواعي الأمنية- بالقول إن قوات الدعم السريع أوفدته وآخرين إلى منطقة الهلالية فور تفشي المرض، مشيراً إلى أنهم ذهبوا إلى الهلالية وحملوا معهم شحنات من المحاليل الوريدية والأدوية، ورافقهم العديد من الكوادر الطبية، حيث تم العمل بالتنسيق مع الإدارة المدنية في المدينة والولاية، وتمت حملة نظافة لمنطقة تجمع السكان، ومعالجة المصابين منهم وعزلهم، مؤكداً أن الحالات المرضية الآن في تعافٍ والإصابات في تراجع، نافياً وجود أي شبهة جنائية في الأمر.