البرهان والقوى السياسية.. من يلوح مودعاً
عثمان فضل الله
يوسع قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان نفوذه تدريجيا للسيطرة الكاملة على مقاليد السلطة في البلاد، وينشط عبر دوائر داخلية وخارجية في إحكام قبضته والإمساك بخيوط اللعبة، مجيدا التعامل مع التناقضات في المشهد وتجيرها لصالحه، العديد من الدلائل تشير إلى أنه وبعد أربع سنوات من وصوله إلى سدة الحكم بدعمهم شرع في قصقصة أظافر الإسلاميين داخل المؤسسة العسكرية، و أجهزة الإعلام ومكن لآخرين لا يدينون له بالولاء.
أجرى قائد الجيش تعديلات في كابينة القيادة بعضها أُعلن والآخر قيد الانتظار، مشيحا بوجهه عن أخرى يرغب فيها التنظيم الإسلامي تقضي بإقالة نائبه في الجيش الفريق أول شمس الدين الكباشي، ومدير المخابرات العامة الفريق أحمد إبراهيم مفضل إلى جانب الأمين العام لمجلس السيادة الفريق ركن محمد الغالي علي يوسف، وضعت من فترة على طاولته.
فالرجل الذي بدا مشتت الذهن وساهما، ومهموما، خلال اللقاء الذي جمعه بولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي الأمير محمد بن سلمان بالرياض في الحادى عشر من شهر فبراير الجاري، طلب منحه فرصة أخيرة لترتيب بيته الداخلي قبل المضي إلى لقاء نهائي مع الدعم السريع للتوقيع على خريطة طريق تنادي القوى الدولية طرفي الحرب بالتوافق عليها، بحسب دبلوماسيين، ناشطين في الدوائر المهتمة بحرب 15 أبريل ومقربين من مصانع القرار، ترافق ذلك مع مجاهرة الإسلاميين بمخاوفهم من نوايا قائد الجيش التي تضمر التخلص منهم فور انتهاء “معركة الكرامة” – كما يسمونها – ووفقا لمعلومات مؤكدة أن ورقة تم تداولها في إطار ضيق ناقشت “علاقة التنظيم بالجيش المخاطر والمهددات” وضعت الورقة أسماء كل من البرهان وياسر العطا وشمس الدين كباشي في مقدمة مهددات هذه العلاقة، وفصلت الورقة بشكل كامل بين الجيش وقيادته، معتبرة أن الجنود والضباط هم ذخيرة للعمل الإسلامي وأن الراي العام داخل المؤسسة العسكرية بالكامل مؤيد للتنظيم ومقدرا لدور المناصرة الذي قام به خلال حرب “الكرامة”، بينما قيادته تسعى إلى التلاعب بهذا الدور ولا ترغب في استمرار الوجود الإسلامي في الواجهة عقب انتهاء الحرب وعزت ذلك إلى ما أسمته بـ”ارتباطاتها الخارجية”.
معارك عديدة تدور على تخوم حرب 15 أبريل والسباق فيها محموم والأسلحة القذر منها والنظيف جميعها مستخدم بين الخصوم، الدبلوماسية والعمل الاستخباري نشط بشكل لم يسبق له مثيل وتتقاطع فيه الأجندة والمصالح لدرجة التضارب و”التحارب” أحيانا، وبإمعان النظر سنجد أن صراع الإسلاميين والبرهان ما هو إلا عرض لذالكم الصراع الدولي حول السودان.
بالعودة لزيارة المبعوث الأمريكي الأخيرة إلى بورتسودان بدا واضحا لكل من التقاه عدم رضائه عن دور الاتحاد الأوروبي في الأزمة السودانية، وتحدث عن أن الدول التي التزمت بالمساعدات تتعلل بضرورة فتح المعابر وغير متشجعة لتمويل عمليات الإغاثة في السودان. وقال في اجتماعه مع البرهان “إنهم يتحججون بأن المعابر مغلقة، وعدم استطاعتهم الوصول للمحتاجين”، مطالبا البرهان بفتح المعابر وكأنه يريد أن يقول و”لنرى بماذا سيتحججون بعد ذلك.”
بيرييليو الذي أقنع بورتسودان بفتح جميع المعابر والسماح لموظفي الأمم المتحدة بمرافقة قوافل الإغاثة إلى حيث تريد الذهاب، وأفلح أيضا في إقناع البرهان بالعمل على وضع “إعلان مبادئ جديد” تقوم عليه جولة المفاوضات المقبلة، قال ذات الحديث عن دول الاتحاد الأوروبي في لقاء جمعه مع قيادات الدعم السريع بنيروبي، مختطا بذلك طريقا أمريكيا خالصا بعيدا عن شركاء وداعمي منبر جدة وإعلانه، الذي بدا رغم التمسك الظاهر به “يلوح تلويحته الأخيرة” فالإعلان وفقا لما يجري خلف الكواليس لم يعد مواكبا لما هو على الأرض من تطورات، ولا يلبي تصورات واشنطن لترتيب مشهد الحرب وما بعدها، لذا غيرت تكتيكاتها، ومقارباتها لإنهاء حرب السودان بما يبعد الخطر الإيراني الروسي عن البحر الأحمر، فحصرت مسعاها من خلال حركة مبعوثها النشطة في نقطتين يعالجان تداعيات الحرب لا جذورها وهما وقف إطلاق النار، وحماية المدنيين، وتضغط على الأطراف للتوافق على إعلان مبادئ يعالج القضيتين أعلاه، وهي ذات النقاط التي كانت محور مفاوضات جدة منذ انطلاقتها الأولي في مايو من العام الماضي، غير ان الإعلان الجديد لن يستند على مخرجات جدة، بحسب متابعين للملف، لأن التحولات على الأرض باتت كبيرة ورقعة الحرب اتسعت عن ما كانت عليه حينها، ولا أطرافها هي ذات الأطراف، الأمر الذي يتطلب مقاربة جديدة تقوم عليها محاولات الحلول في الفترة المقبلة.
الواضح أن هذه المقاربة تستبعد القوى السياسية المدنية بجميع تياراتها وتراهن فقط على من يحملون السلاح على الأقل في المرحلة الأولى، فواشنطن أخرجت من أجندتها الملف السياسي وتركته لحلفائها في المنطقة إلى جانب الاتحاد الافريقي، مما يضع القوى السياسية الوطنية أمام منزلق شديدة الانحدار فمعالجات الإقليم لا يشكل التحول المدني الديمقراطي حجر الزاوية فيها على عكس القوى الغربية التي تحاول واشنطن إبعادها عن المشهد، بدورها لا تستسلم وتسعى أن يكون لها دور لذا تسابق القطار الأمريكي من خلال سعيها الدؤوب لإحداث اختراق بتشكيل أكبر كتلة مدنية تفرض وجودها، وفي هذا الجانب يفترض أن تختتم اليوم الأربعاء ورشة عمل ذات أهمية كبرى دعت لها منظمة “بروميديشن” الفرنسية في سويسرا وتداعت لها كل الأحزاب والقوى السياسية من مختلف التيارات ورغم بيان المقاطعة الذي أصدرته ” الكتلة الديمقراطية” إلا أن أروقة الاجتماعات كشفت مشاركة كل مكوناتها ما عدا حركتي العدل والمساواة تيار جبريل إبراهيم، وحركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، وتهدف الورشة إلى إصدار ” ديكلاريشن” موحد حول القضايا المختلف عليها بين كل تلك القوى والأحزاب السياسية، يكون ممهدا لمجرى المياه خلال الفترة المقبلة.
وليس بعيدا عن كل ذلك تشهد العاصمة الكينية نيروبي والأوغندية كمبالا ابتداء من يوم غد الخميس، تحركات هي الأوسع للقوى المدنية المناهضة للحرب، من أجل بناء كتلة حرجة داعمة، وفي نيروبي تبدأ غدا اجتماعات تضم إلى جانب تحالف “تقدم” حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور والحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو وقوى سياسية، وشخصيات كانت في السابق محسوبة على التيار الداعم للحرب، بدعوة من الحركة الشعبية شمال التيار الثوري، بغرض توحيد المواقف والتوافق على اليوم التالي لوقف إطلاق النار ليعقب ذلك عدد من الاجتماعات الثنائية الممهدة لمؤتمر المائدة المستديرة الذي تسعى له مصر بدعم من الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي الذي ينتظر له أن يكون الطوبة الأخيرة في بناء توحيد القوى السياسية المدنية.
كل تلك التحركات التي يسابق بعضها بعضا للوصول إلى اليوم التالي للحرب، يرقبها البرهان القائل بحسب تصريح لصديق الأمس عدو اليوم وربما صديق الغد محمد حمدان دقلو ” خليها تتفرتك بتجينا تاني” وفي عزمه الاستفادة منها باعتباره إلى الآن الثابت الوحيد في المعادلة، الممسك بالعناصر الأساسية الظاهرة فيها، لكن الغائب عنه وعن الجميع هو موقف الشعب السوداني بعد أن يصمت صوت المدافع وتصفى سماء الخرطوم..