غشّاني يا عمدة
السر السيد
لا شك أن أغلبكم لا شعوريًا قد أكمل الجملة فى سره قائلًا: (وقال لَي بعرّسك).
سأعود إلى هذه الجملة ولكن دعوني الآن أشرككم في مقاربتي لفرضية: أن المسرح السوداني قد أصبح بمثابرة وتضحيات صناعه وبما طرحه من موضوعات واحدًا من تقاليد الاجتماع عند السودانيين، وجزءًا من نسيج حيواتهم اليومية، وقد يعود هذا ربما إلى أن المسرح السوداني، لم تكن أدواره تقف عند التوعية والترفيه على أهميتهما، وإنما لأنه، وهذا بحكم تاريخه وطبيعته كفن، كان الأسبق في السودان مقارنة بالأنماط الإبداعية الأخرى، في الاشتغال على إعادة بناء الذاكرة السودانية ومنحها فرصًا في البقاء والتواصل، فقد نهل وبإبداعية عظيمة من التاريخ والموروثات الثقافية كما في مسرحيات (المك نمر/ المهدي في ضواحي الخرطوم/ ثورة 24 / تجنيد إجباري وغيرها) ومسرحيات (مصرع تاجوج والمحلق/ حصان البياحة/ نبتة حبيبتي/ تهاشو وغيرها)، يضاف لهذا أنه كان حاملًا للكثير من المعارف ذات السمات الوجودية والفلسفية والمجتمعية، ولا غرابة فقد اشتمل إرشيفه على اشتغال في موضوعات على صلة بالسلطة، والجسد، والرق والحرب، والحب والعدالة والمقاومة، وكل ما من شأنه أن يضع المتعرضين له على لهيب التفكير النقدي ومطلب التغيير. لذلك لم يكن غريبًا أن يحضر في سير ومذكرات بعض قادة الفكر والسياسة في السودان كمذكرات خضر حمد على سبيل المثال، وأن يكون واحدًا من روافع المشاريع المجتمعية والسياسية النوعية كمشروع الاتحاد النسائي السوداني، كما جاء في كتاب المسرحي الكبير محمد شريف علي الموسوم بـ(مسرح للوطن.. حكايات وذكريات من تاريخ المسرح السوداني 1900-1980) الصادر عن الهيئة العربية للمسرح في العام 2019، وفي مخطوطة الناقد المثابر بروفيسور اليسع حسن أحمد الموسومة بـ( دراما الراديو) التي آمل أن تنشر قريبًا، بل لم يكن غريبًا أن يستدعي بعض المفكرين والصحافيين السودانيين ما جاء في بعض المسرحيات السودانية من أقوال في مقارباتهم الفكرية ومقالاتهم الصحفية كالدكتور شريف حرير في الكتاب المشترك بينه وبين الدكتور تيريجي تفيدت الموسوم بـ”السودان.. الانهيار أو النهضة”، فقد جاء في مقالته: “إعادة تدوير الماضي في السودان.. نظرة عامة في التحلّل السياسي”، صفحة 22 قوله: (… وعندما أثيرت “نبتة” بشكل رمزي في الأعمال المسرحية كمجاز للوطنية السودانية، راقت قطاعًا معيّنًا من الطبقة المتعلمة السودانية، أي ذوي التوجه العلماني، وبالنسبة لعموم أهل السودان في الغرب والجنوب والوسط والشرق، تظل “نبتة حبيبتى” مسرحية ذكية قدمت مرة في المسرح القومي بأمدرمان ككركاتير لنظام نميري بواسطة قوى اليسار السوداني، فضاعت القيمة التاريخية المجازية ورمزية الوقت الراهن، التي أراد كاتب العمل تجسيدها فيه على عموم السودانيين). انتهى- ما يعنينا هنا استدعاؤه للعرض وليس نظرته له- والصحفي الأستاذ فيصل محمد صالح في مقالته التي نشرها قبل أسبوع تقريبًا في جريدة الشرق الأوسط تحت عنوان: “ضاقت.. ثم ضاقت تاني”، التي جاء فيها: (للفنان والكوميدي السوداني الراحل الفاضل سعيد عبارة شهيرة رددها في إحدى مسرحياته، وصار الناس يتداولونها للإشارة إلى سوء الأوضاع، فقد كان ينطق جملة «ضاقت، ولما استحكمت حلقاتها…» ويترك الجمهور يكمل الجملة المعتادة: «فرجت، وكنت أظنها لا تفرج»… فيفاجئهم بإشارة نفي من يده، ثم يكمل الجملة بطريقته قائلاً: «ضاقت تاني».. إلى أن يقول – أي الأستاذ فيصل: ويبدو أن الأوضاع في السودان لا يتطابق معها إلا جملة الفنان الفاضل سعيد). انتهى.
بالعودة إلى جملة “غشاني يا عمدة”، التي أصبحت “ترندا”، يردده السودانيون والسودانيات منذ عرض المسرحية التى جاءت فيها الجملة على خشبة المسرح القومى في العام 1977 وإلى الآن، والمسرحية المقصودة هى (السيل)، التي كتبها عمر الحميدي وأخرجها عمر الخضر، تلك المسرحية، التي دخلت في المسكوت عنه ومن أوسع الأبواب عندما حكت قصة “زينب” الفتاة القاصر التي أُستدرجت وغُرِر بها فكانت النتيجة (الحَمْل سفاحًا)، وما ترتّب على هذا الحمل من عنف مؤسس قائم على تمييز فصيح على أساس النوع طالها وحدها، إذ تم غضّ الطرف عن المنتهِك واسمه “عوض” الذي أنكر فعلته، بل وتواطأ معه آخرون بدءًا من الذين شاهدوه يُدخل الفتاة ويغلق باب الدكان من الداخل انتهاءً بقرار العمدة الذى جاء في صالح المنتهِك.
جاء فى العرض:
زينب: غشاني يا عمدة وقال لي بعرسك ولما حِمِلْتَ قال لي ما بعرسك.
العمدة: بنات الرجال لما يغلطوا زي الوقعة دي.. سمعنا قالوا بكبو الجاز فوق هدوهم ويحرقن نفسن.
زينب: هو يحرق رقبتو أول.
العمدة: لكن هو ما بحرق رقبتو.
زينب: ليه؟
العمدة: عشان هو راجل..
أنا من رأيي يا زينب تسافري.
زينب: أسافر؟
العمدة: السفر أخير ليك من أي شيء تاني وقعادك فضيحة لينا.
وهكذا استطاع المسرح السوداني بما قدّم أن يستوطن وجداننا ويتسلل إلى تعبيراتنا العفوية والمتعمدة وهنا لا يفوتني أن أذكّر القارئ والقارئة بجملة الفنان الفاضل سعيد: (حمدان قوم جيب شاي)، التي جاءت في مسرحية، “نحنا كدة” 1977، ولا يزال السودانيون يرددونها.
وكذلك بجملة: (… يا خلف الله عذبتنا)، التي ظهرت في اسكتش درامي ضم النجمين الكوميديين جمال حسن سعيد وإبراهيم كوميك.
ما رغبت في الإشارة إليه هو أن المسرح السوداني كان ولا يزال مشتبكًا بأسئلة المجتمع على الأصعدة كافة وأنه ضارب الجذور فى نسيج حيواته الاجتماعية، والثقافية والسياسية وأنه من المعطيات الكبيرة التي يغفل أو يتغافل عنها السياسيون وبعض المثقفين وهذا مما يؤسف له.