“المفقودين”.. رحلة من الشك إلى اليقين

مصير مجهول ونهايات مفتوحة

أفق جديد
(يعود أو يموت) مصير مجهول، ونهايات مفتوحة لحكايات المفقودين في السودان، الذين تعاظمت أعدادهم، إثر اتساع رقعة الحرب بين طرفي القتال الجيش ومليشيا الدعم السريع، من نجا يأتي مزودا بذكريات قاسية، ومن لاقى حتفه يدفن ومعه سره تاركا خلفه مئات الأسئلة، أمات نتيجة التعذيب والجوع في أحد المعتقلات أم وحيدا في العراء وجميعها تعد جرائم حرب لا تجد الاهتمام المحلي والعالمي المطلوب، بالمقابل تعيش أسر المفقودين لحظات عصيبة محاصرة بين قوسي التفاؤل والتشاؤم وتقع فريسة الأفكار المريبة وحالها الخوف والحزن والقلق والانتظار.
الصحفية المعروفة مزدلفة محمد عثمان عاشت تلك الأحاسيس لأكثر من نصف عام، وتحولت قصتها من الشك إلى اليقين، عقب الإعلان عن وفاة شقيقها المفقود صلاح محمد عثمان وابنه، في معتقلات الدعم السريع نتيجة الإهمال والمرض. وفي ردها عن سؤال “أفق جديد” أيهما أصعب الموت أم الغياب قالت بعد تنهيدة عميقة كل مرحلة أقسى من الأخرى.
وتقول مزدلفة “منذ أن عرفنا باختفائهم أواخر رمضان الماضي، كانت تردنا تطمينات من بعض عناصر المليشيا إنهما بخير وضمن قوائم الإفراج وسيتم إخلاء سبيلهما قريبا”. وتضيف بحسرة “بمرور الوقت أدركنا إنهم مجرد كذبة ومراوغين لا يملكون الجرأة لنقل حقيقة وفاتهما”.
وبحسب إفادات أحد الناجين من المعتقل، فإن صلاح توفى في معتقل الرياض سيء السمعة نتيجة للجوع والمرض، وهو يعاني السكري. وفضل أحد ضباط المليشيا عدم نقله إلى معتقل سوبا، حتى لا يحتل مساحة في المركبة التي تقلهم، بينما تم ترحيل ابنه قسرا تاركا والده ممدا في سرير المرض، ويبدو أن انشغاله بأبيه مقرونا بمضاعفات الكوليرا وغياب العلاج جعله يغادر هو الآخر. وتم محو اسميهما من قائمة المفقودين ليضافا إلى عداد الموتى، وتخشى آلاف الأسر من هذا المصير وهي تترقب عودة المختفين.

ازدياد يستعصي معه الحصر
تنامت أعداد المفقودين بشكل ملحوظ باتساع رقعة القتال بين الجيش والمليشيا، ما أدى الى صعوبة إجراء إحصائيات جديدة بشأنهم، وأصدرت المجموعة السودانية لضحايا الاختفاء القسري بعد مرور عام من الحرب آخر إحصائية، وبلغ عددهم آنذاك 1140 مفقود. بالإضافة إلى إحصائيات متفرقة من مواطني المناطق التي تعرضت حديثا للهجوم من قبل قوات الدعم السريع.
وتضيف مزدلفة التي تعمل رئيس تحرير موقع “سودان تربيون” إنها استنتجت من عملية البحث المضني عن شقيقها الأكبر الذي تتخذه مقام والدها، إن مليشيا الدعم عبارة عن جزر معزولة، كل يفعل ما يريد دون حسيب ولا رقيب، مؤكدة أنها لم تجد على المستوى المحلي تفاعلا مع القضية.
ودعت عثمان الإعلام إلى تركيز جهده لفضح انتهاكات المليشيا وممارساتها غير الأخلاقية المتسمة بالعنصرية والتعالي بحكم القوة والسلاح. جاء ذلك في معرض ردها عن سؤال “أفق جديد” حول تأثير حادث شقيقها وابنه على أدائها الصحفي، موضحة بأنها تتقصى لمعرفة من تورطوا في الأمر وحال توصلها لمعلومات ستقوم بتمليكها الجهات الحقوقية حتى ينالوا عقابهم مردفة “كلنا يقين بأن حساب الله هو العدل”.
وبرزت ظاهرة جديدة وسط المفقودين، باختفاء أسر كاملة، ما عده عضو المجموعة السودانية لضحايا الاختفاء القسري عثمان البصري، تطورا جديدا في هذا الملف، مؤكدا أن آخر بلاغ تم تدوينه لأسرة تتكون من 3 أفراد، واصفا الأمر بالمقلق.
ووفق مصادر “أفق جديد” فإن أعداد المفقودين بكافة أشكالهم بلغت أكثر من 80 ألف منهم 50 ألف معتقل بسجون الدعم السريع فيما لم ترصد أعداد المعتقلين في سجون الجيش. وحسب المصدر إن هذه الإحصائية التقديرية تمت بناء على دراسة أجريت على ما نشر على مواقع التواصل الاجتماعي، بالإضافة لحجم البلاغات لدى المبادرات في هذا الجانب.

فقد أسر كاملة تطور جديد في الملف
لكن البصري أكد عدم وجود إحصائية حديثة، موكدا أن آخر إحصائية كانت قبل عام وبعد مضي سنة على الحرب وكان عدد المفقودين آنذاك حوالي 1140 مفقودا، مؤكدا وجود إحصائيات متفرقة لبعض المناطق التي هاجمتها قوات الدعم السريع مثل الجزيرة وسنجة باجتهاد شخصي من قبل مواطني تلك المناطق.
وأكد البصري أن الخرطوم ما زالت تسجل أكبر أعداد للمفقودين، لكنه استدرك بأنه عقب أحداث الجزيرة اختفت مجموعات كبيرة لم يتم حصرهم بسبب انقطاع الاتصال والوضع الأمني غير المستقر.
وحذّر عضو المجموعة السودانية من إهمال المفقودين، مشيرا إلى الوضع المتردي وأوضاعهم البالغة التعقيد داخل المعتقلات قائلا “قد يمضي المعتقل يوما كاملا دون وجبة ولا توجد دورات مياه ولا علاج ما أدى إلى وفاة أعداد كبيرة داخل المعتقلات”. لافتا إلى أن هنالك معتقلين يموتون بسبب التعذيب ويتم تصفيتهم بصورة مروعة،
وسرد حادثة عن أحد المعتقلين في شرق النيل تم تعذيبه ودفن في باحة المعتقل وتحت إصرار أهله وترددهم على المكان وبمعاونة أفراد المليشيا تم نبش الجثمان ونقله إلى مقابر الحاج يوسف.
وأرجعت الناشطة رؤى عربي، عضو حملة (وديتوهم وين)، عدم تناسب البلاغات مع حجم المفقودين إلى التهديدات التي يتلقونها من عناصر الدعم السريع، مؤكدة إنهم يبتزون الأسر للحصول على الفدية بقولهم إذا أخطروا أي من الجهات سيتم قتل ابنهم المعتقل.

الخطف بات وسيلة استرزاق وحصد الأموال
وأكدت رؤى أن اعتقال المواطنين لدى قوات الدعم السريع بات وسيلة استرزاق للحصول على مبالغ بشكل متواصل من بعض الأسر ما أدى إلى زيادة حالات الاختفاء بصورة كبيرة بجانب الهجوم على ولاية الجزيرة وانعدام سبل التواصل مع الأسر.
ولفتت الناشطة إلى أهمية تضافر الجهود الدولية والمحلية للتخفيف من حدة هذه الجريمة التي تعد الانتهاك الأبشع في ظل الحرب. وأقرت بأن أعداد المختفين باتت أكبر من طاقة المبادرات لذلك شاب عملها الفتور.
رحلة مشحونة بالمتاعب في انتظار الشابة ميادة التي فقدت والدها السر عبد الرحمن العوض وشقيقها محمد عقب أحداث الدندر. وأبلغت ميادة “أفق جديد” بأنه مصاب بالجلطة والسيولة وكبير في السن، وشقيقها مريض نفسي الأمر الذي زاد معاناتها وقالت لـ”أفق جديد” عبر رسائل نصية أظهرت الحيرة التي تعيشها “لم أترك مكانا لم أبحث فيه، دونت بلاغات بجميع النيابات ولم أجد ردا شافيا، والدي وأخي ليسا بوضع صحي جيد ما زاد وتيرة قلقي”.
تضيف ميادة “نحن من سكان مدينة الكلاكلة نزحنا إلى سنجة، إلى الديار الأصل، وعندما سيطرت مليشيا الدعم السريع على المنطقة غادرنا إلى الدندر”. وحسب بيان لمبادرة (مفقودين) من سنجة فإن العدد الكلي بلغ 524 من بينهم 95 طفلا.
وتقول ميادة “أثناء الاشتباكات الأخيرة في الدندر فقدت الأسرة والدي وأخي وغادرنا إلى شندي والآن في طريق العودة إلى أم درمان”، مضيفة “نتحرك من مكان إلى آخر ويملأنا الخوف على مصير والدي وأخي ونعشم أن يعودا سالمين”.
في الطريق من قرية البويضاء بالجزيرة خرج الشاب محمد طه قاصدا مدينة بورتسودان باحثا عن الأمان في أرض لا تدور فيها المعارك، وعن صوت آخر بعيدا عن صوت الدانات والرصاص، لكنه في محطة هيا ضل طريقه وانقطع عن التواصل مع أهله.
ويحكي محمد الطيب لـ”أفق جديد” قصة محمد طه ويقول إنه وصل محطة هيا شرقي السودان وانقطع التواصل معه وأن شهود عيان قالوا إنه فاته البص الذي كان يقله، مؤكدا إنه مضت ستة أيام لا يعرفون عنه شيئا.
أسر المفقودين تهيم في الطرقات تتقضى أثر ذويهم، تشتاق لسماع أصواتهم ولو عبر اتصال. لا تعرف لمن تلجأ ولمن تشكي سوء المنقلب، فلا أذن تسمع، وقد تضيع صرخاتهم بين دوي الأسلحة والانفجارات التي يشهدها السودان وسط تغافل بائن من الدولة والمجتمع الدولي لا ينتصر لقيمة الإنسان.

مفقودون خارج الأوطان
امتدت سلسلة الاحتفاء لتصل إلى دول مجاورة، وشكا الناشط في دعم أسر المفقودين والمهموم بأوضاع السودانيين في مصر قدورة من أن النساء في المهجر لا يُراعين التغيرات الجديدة بالمنطقة وأكثرهن يتهاونن في ترك أطفالهن في الشارع أو إرسالهن لجلب احتياجات المنزل من السوق، مؤكدا أن معظمهم يستعصي عليهم العودة لطبيعة البنايات المتشابهة.
وذكر قدورة لـ”أفق جديد” بأنه دون ٤٩ حالة اختفاء أطفال وجميعهم عادوا إلى أهلهم بعد معاناة وبمساعدة أحد الأشخاص. وأشار إلى أن معظم الأسر لا تستطيع اتخاذ إجراءات قانونية للبحث عن المفقودين بسبب عدم امتلاكهم إقامات رسمية، لافتا إلى تنامي حالات اختفاء وسط الشباب والنساء بسبب عدم وجودهم القانوني وترحيلهم القسري إلى مدينة حلفا في الحدود السودانية.
واقترح مبادرة تضم أفراد من حلفا وآخرين داخل مصر حتى تكتمل حلقة البحث عن المفقودين والتأكد بأن المختفين موجودين داخل الحدود السودانية حتى يطمئن ذووهم، مشيرا إلى أن الأسر تعيش أوضاعا نفسية صعبة ولا تستطيع البحث عنهم بسبب ظروفهم الاقتصادية، مؤكدا أن معظم الشباب الذين يرحلون إلى حلفا يعملون في مهن هامشية لمساعدة أهلهم. وأكد قدورة أن هنالك حالات لسودانيين في المشرحة والعناية المكثفة ولا تستطيع الجهات التواصل مع أسرهم.
الاختفاء القسري يعني إنه اختفاء رغم أنفه
في القانون الدولي لحقوق الإنسان، يحدث الاختفاء القسري عندما يتم اختطاف شخص ما أو سجنه من قبل دولة أو منظمة سياسية أو من قبل طرف ثالث بتفويض أو دعم أو موافقة من دولة أو منظمة سياسية، يتبعه من خلال رفض الاعتراف بمصير الشخص ومكان وجوده، بقصد وضع الضحية خارج نطاق حماية القانون.

خرج ولم يعد شخص تجهل الناس مكانه
تعريف المفقودين من هم المفقودين؟
لا يوجد تعريف لمصطلح الشخص المفقود بموجب القانون الدولي. في سياق عمل اللجنة الدولية لشؤون المفقودين، الشخص المفقود هو أي شخص يحتاج إلى تحديد مكانه لأسباب خارجة عن إرادته. هناك العديد من السياقات التي يختفي فيها الأشخاص ما بين المفقودين وظاهرة الاختفاء القسري الإلمام بمكان الشخص يظل الشخص مفقودا إلى أن تثبت المعلومات إنه معتقل أو محتجز يتحول حينها إلى مصطلح الاختفاء القسري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى