عملية للمشكلة السودانية تتطلب تنازلات متبادلة
عادل حسون
adilhassoun@hotmail.com
لا يمكن لأي من طرفي الحرب السودانية الحالية الادعاء باطمئنان بعدم وجود مشكلة بسبب هذه الحرب المستمرة وتتطلب الحل، العاجل إذا أمكن. لأن نزيف الدم وسط الآهلين لا يزال مستمرا وأزمات الجوع والنزوح والأوبئة وانتهاكات حقوق الإنسان والفظائع المروعة لا تزال تخيم على سماء البلاد. أمس الأول تبارى كبار ممثلي الدبلوماسية الدولية تحت قبة مجلس الأمن لتفصيل حقيقة الحرب التي تسببت في أكبر أزمة إنسانية في عالم اليوم، ضمن الجلسة التي دعت إليها الولايات المتحدة الأمريكية وترأسها وزير الخارجية أنتوني بلينكن. أبديت الدعوات المرسلة وأزجيت النوايا الطيبة ودعم مالي إنساني والحركة المدنية من واشنطن بدون أن تتطرق الجلسة إلى أفكار عملية عن آليات تنفيذية تصدر بقرار من المجلس لتصبح ملزمة لأطراف الحرب خصوصا إذا قرئ ذلك مع المحاذير التي أعلنها مندوب الاتحاد الروسي فاسيلي نيبينزيا، بشأن عدم تبني حلول أحادية الجانب ودون موافقة “مجلس السيادة” المؤسسة الوحيدة التي تعبّر عن الدولة السودانية الرسمية، فيما بدا وكأنه تسجيل هدف روسي في الوقت الإضافي في إحدى جولات المبارة ضد الإدارة الديمقراطية المنصرفة على الملعب السوداني، وهي قضية قد لا تهم، على كل حال، ضحايا الحرب السودانية والأزمة الإنسانية الأكبر. فالحرب الباردة بين الطرفين سجال بطبيعتها، يوم لهذا ويوم للآخر، نهج مستمر منذ عقود وعلى سبيل المثال سجلت واشنطن هدفا سابق لهذا عند نجاح قوى الثورة السورية المسلحّة المتطرفّة في إسقاط نظام الأسد الدموي الموالي لروسيا. ولذا فإن مجلس الأمن لا يرجى منه كثيرا وقد لا ينتظر منه شيء في القريب العاجل.
في السياسة الداخلية وعلى الرغم من اتفاق غالبية البيانات الصحفية الصادرة عن الأحزاب السياسية من دعاة وقف الحرب بمناسبة الذكرى السادسة لثورة ديسمبر ٢٠١٨ مثل الحزب الشيوعي السوداني وكذلك التحالفات المدنية مثل “تنسيقية قوى تقدم” على ضرورة تكوين جبهة عريضة لوقف الحرب لكن لا يشهد فعلا من هؤلاء سعيا لقيام جبهة موحدة وسط الانقسام المستمر بين هذه الأطراف وبين دعاة استمرار الحرب. الانقسام مع هؤلاء الأخيرين مرده إلى مسألتين هما: كيفية وقف الحرب وطبيعة اليوم التالي لتوقف الحرب. الطرف السياسي من حلفاء النظام البائد يرى بأن نهاية الحرب تكون فقط بهزيمة ساحقة لمليشيا الدعم السريع وتدميرها تماما. الطرف الآخر الذي يقف مع ضرورة هزيمة القوات المسلحة السودانية لأنه يتحالف مع النظام البائد ومن ثم إرغامه على السلام ويمثله مكّون الحركات المسلحة في تقدم يمضي إلى تشكيل حكومة موازية لتلك التي ببورتسودان ويرأسها الجيش. بطبيعة الحال كلا الفريقين يرجو حلا لن يتحقق بسهولة لأن كلا المتحاربين على الرغم من أي انتصارات ميدانية حققها الجيش في شمال الخرطوم وشرق ولاية الجزيرة مؤخرا فإنه يفقد في ذات الوقت مواقع أخرى في جنوب النيل الأبيض وحدود ولاية سنار وإقليم النيل الأزرق مع جمهورية جنوب السودان. لطبيعة اتساع مسرح الحرب قد لا يستطيع الطرف منهما إيقاع النصر الحاسم على عدوه الآخر إضافة إلى أسباب أخرى متعددة أبرزها عامل المساندة الإقليمية لكلا الطرفين.
هناك فريق سياسي “عقلاني” تمثله تنسيقية تقدم يقف في المنتصف ويدعو لوقف الحرب كمدخل لحل المشكلة الإنسانية وابتدار عملية سياسية تطوي صفحة الحروب وتؤسس للدولة المدنية. لكن ما يضعف موقف تقدم أنها تضع قيدا للحوار مع “الآخر” فيما عرفّته من قبل “عدم الإغراق” للعملية السياسية منذ الاتفاق الاطاري بين فصائل مكوّنها “قحت” وطرفي المكوّن العسكري حينها. والمقصود بذلك مكافأة حلفاء النظام السابق بما فيهم تحالف الكتلة الديمقراطية ككّل بإشراكهم في اليوم التالي للحرب. إنها هي ذاتها مشكلة قبول الآخر التي تعتبر إحدى الأزمات القديمة في العهد الوطني للسودان التي أورثته الفشل المزمن حقبة تلو الأخرى. من مسافة أقرب يطرح رئيس حزب الأمة السيد مبارك الفاضل المهدي، حلا أكثر عملية يستبق به الانزلاق المتوقع بعد تسارع خطى مشروع الحكومة الموازية المدعومة من الدعم السريع لتعمل في المناطق التي تحت سيطرتها وبالتالي استمرار الحرب المدمّرة على نحو أعمق مما سبق.
طرح السياسي المعروف في مقابلته مع منصّة (الكرامة) الموالية للجيش السوداني الأسبوع الماضي خارطة طريق مبسطّة ويمكن تطبيقها بسهولة إذا توفرت الإرادة من طرفي الحرب. “وقف إطلاق نار شامل وفق اتفاقية جدة الأولى (مايو ٢٠٢٣) وتجميع مقاتلي الدعم السريع في معسكرات متفق عليها ووضع إعلان دستوري يؤسس لمرحلة انتقالية بمشاركة القوى العسكرية، تقودها حكومة مدنية تنشأ عن حوار شامل بين الأطراف السياسية ويؤسس لبرنامج انتقال ديمقراطي ينتهي بتكوين مؤسسات الدولة بما في ذلك الجيش المهني الموحد واجراء انتخابات حرة نزيهة بنهاية الفترة الانتقالية”. ولأجل ذلك بحسب الفاضل فإن “على قائد الجيش عبد الفتاح البرهان أن يتصرف كرئيس دولة فعلي ويذهب إلى الدول التي تدعم القوات المتمردة للحوار معها مباشرة وللتوصل إلى حلول لأزمة البلاد ومعاناة شعبها المتصلة لأن تلك الدول قادرة على إلزام الدعم السريع الإنصياع لخارطة الحل وتنفيذها بالجدية المأمولة”. للمفارقة أعلن مندوب السودان الدائم بالأمم المتحدة الحارث إدريس، في جلسة مجلس الأمن المشار إليها قبول الحكومة السودانية إشراف الأمم المتحدة على المعسكرات التي يجمّع فيها مقاتلي مليشيا التمرد كأحد اشتراطات حكومة السودان لوقف الحرب. إنها نفس الفكرة التي طرحها السيد مبارك الفاضل ولكن بشكل محسّن، أي بضمانات دولية، وذلك عند إسناد الإشراف على تلك المعسكرات للأمم المتحدة. إنها ذاتها دعوة إرسال بعثة أممية لحفظ السلام وإنشاء مناطق لحماية المدنيين، مطلب القوى المدنية في تقدم الذي نتج عن نداءات عديدة تبنتها بريطانيا أخيرا في مجلس الأمن عبر مشروع القرار الذي قدمه وزير خارجيتها ديفيد لامي، وسقط بموجب الفيتو الروسي في إطار الصراعات مع الغرب بسبب الحرب في أوكرانيا المدعومة من الدول الغربية.
لمبارك الفاضل دعوة مشابهة أطلقها قبل سنوات نصح بها الرئيس السابق عمر البشير، في شأن كيفية حل مشكلة تمرد الحركة الشعبية- شمال بزعامة القائد عبد العزيز الحلو. فالأصل حسب طرحه حينها أن حركة “الحلو” هي في حقيقتها الفرقتان الرابعة والخامسة في جيش التحرير الشعبي التابع لدولة جنوب السودان. والحوار يكون مع الأصل في جوبا وليس الفرع في كاودا بجنوب كردفان أو دندرو بجنوب النيل الأزرق. لم يكترث نظام البشير لتلك النصيحة العملية واستمرت الحرب مع الحركة الشعبية حتى سقوط النظام. الحرب السودانية المأساوية تبدو أقرب لطي صفحتها إذا تنازلت الأطراف السياسية والعسكرية عن بعض مواقفها وقبلت باشتراكها جميعا، بما في ذلك طرفي الحرب، في اليوم التالي لها. فالخيار البديل هو قيام الحكومة الجديدة المزمعة وتحول الحرب إلى حرب حكومات بدلا عن نزاع عسكري بين جيش نظامي وفصيل منشق عنه. في مثل تلك الحروب قد نرى طائرات مقاتلة لكل طرف تنشر الدمار أكثر مما شهدتها الأشهر السابقة من الحرب. سيكون لكل طرف منظومة دفاعه الجوي ووسائل هجمات مقابلة لما لدى الآخر. سيكون السلام مستحيلا تماما بين الحكومات بدلا عن الأطراف. بالأخير العبرة في حرب أوكرانيا وواقع الأزمات المتواصلة في الدول النظيرة “ليبيا” كمثال. لأجل الرأفة بالشعب السوداني صاحب الأزمة الأكبر دوليا، يمكن التنازل قليلا من الأطراف وربما البداية الأوفق تنفيذ خارطة الطريق التي يطرحها مبارك الفاضل المهدي، حتى لا تتصل حرب “ورثة البشير” من العسكريين في كلا المعسكرين حتى سقوط الدولة بأسرها وإفناء الشعب السوداني عن بكرة أبيه.
# حماية_ المدنيين
# Protect _the Civilians