ديسمبر.. سطوة الشعب..!

وائل محجوب
وائل محجوب

احتفل السودانيون على مواقع التواصل الاجتماعي قبل أيام في ١٩ ديسمبر بالذكرى السادسة لاندلاع ثورة ديسمبر ٢٠١٨م العظيمة، وهو إحياء لحدث عظيم تابعه العالم بانبهار لقوة وعزيمة وذكاء شعبنا، الذي واجه واحدة من أعتى الديكتاتوريات، في ثورة استمرت لما يقارب خمسة أشهر، استخدم خلالها عصارة خبراته المتراكمة في مواجهة الطغيان والأنظمة الشمولية، وواجهت طلائعه الموت والدم، حتى كُللت وتوجت بزحف السادس من إبريل الجبار، الذي التف حول القيادة العامة للقوات المسلحة، في أكبر التحام مليوني بشري عبر عنه اعتصام القيادة.

وبالتأكيد لم تخلو هذه الذكرى من بعض الأصوات المعادية لها، بحكم طبيعة انتماء أصحابها للحزب الضرار المؤتمر الوطني، وحاضنته الحركة الإسلامية وحلفائهم، وهي الجهات التي ثار الشعب ضدها، وهزم نظامها، مثلما علت بعض الأصوات من أطياف أخر تصم “ثورة ديسمبر” نفسها بأنها كانت عبارة عن “ثورة ملونة”، تقف من ورائها جهات خارجية وقد سيطرت عليها عبر وكلائها المحليين، وهو تحليل رغائبي يتجاهل عمداً تاريخ الثورة القريب الذي عاشه الملايين يومًا بيوم، وعشرات الشهداء الذين تساقطوا منذ اندلاعها وحتى إجبارها للطاغية عمر البشير للتنحي عن منصبه.

نمط التفكير هذا يتنكب الطريق عن مجريات الثورة، ويسقط مواقفه على القوى التي أدارت المشهد وتولت التفاوض وما تمخض عنه من وثيقة وحكومات على الثورة نفسها، وهو خلط بين الثورة وأهدافها ووسائلها وتكلفتها، وبين النتائج التي تمخضت عنها والقوى التي تصدرت مشهدها.

لقد شاركت الملايين من جموع الشعب السوداني في “ديسمبر”، وهي مشاركة أصيلة، لم تنحصر فقط في المواكب والمليونيات، إنما امتد ذلك العطاء الدافق، لإيواء المتظاهرين وفتح المنازل لتأمينهم وحمايتهم من ملاحقات قوى أمن النظام الرسمية والشعبية، والمشاركة في حملات تتريس المدن، وتنظيم الوقفات الاحتجاجية، وتوزيع المنشورات والبيانات الدعائية، وإنتاج المواد الدعائية والإعلامية والفنية الداعمة للثورة والمحرضة عليها، وإجلاء الجرحى والمصابين وعلاجهم بواسطة عشرات الفرق الطبية المتفرغة، سواء في الميدان أو المنازل أو المستشفيات، وحضور المحاكمات الجائرة للثوار، والدفاع عنهم بواسطة رجال القانون تطوعًا، وتوفير المياه والوجبات من آلاف البيوت السودانية للثوار، وتنظيم التظاهرات والمليونيات خارج السودان في مختلف أنحاء العالم، تضامنًا مع الثورة ودعماً لها، وكل هذا العمل الجبار والضخم تم بذله عطاء ووفاء من ملايين السودانيين من الرافضين لحكم الحزب الضرار والمتطلعين لإنهاء حقبته الدموية التي حطمت البلاد، وهي أحداث قريبة عاصرناها جميعًا، ولا سبيل لتزييفها أو التلاعب بحقائقها.

لقد فقدنا المئات من الثوار الشرفاء خلال مختلف مراحل الثورة، وفي كل أنحاء السودان هناك شهداء قدموا أنفسهم في سبيل الانعتاق من دولة المؤتمر الوطني الفاسدة، ومحاولة التلاعب تسعى لطمس هذه الجرائم المنكرة، التي تمت بدم بارد بحق المتظاهرين السلميين، ولا تخدم إلا مجرمي النظام البائد، الذين يسعون لمحو ذلك التاريخ، وإعادة تقديم أنفسهم كحماة للشعب، أو كمدافعين عن الديمقراطية، وهو كذب بواح ممن تلطخت أيديهم بدماء أبناء البلاد الأبرياء.

إن التعامل مع التاريخ ينبغي ألا يخضع للأهواء الشخصية، لا سيما إن كان يرتبط بحياة الشعوب وانتصاراتها، في سعيها الدائم للحرية ودولتها، ولذلك فمن المهم مع ظروف الحرب التي دمرت البلاد وتسعى لمسح ذاكرتها وإعادة إنتاج رموز العهد البائد سواء أكانوا من القادة العسكريين الذين قطعوا الطريق على أهداف ومطالب الثورة، أو من قادة المؤتمر الوطني وحلفائه، أو الدعم السريع الذي كان يدهم الباطشة، وتقديمهم كأبطال ومحررين في حملة التزييف العاتية الراهنة، لذلك فإن مهمة توثيق التاريخ المعاصر لثورة ديسمبر وما تلاها مهمة عاجلة ولا تحتمل التأجيل.

المجد لثورة ديسمبر العظيمة والخلود لشهدائها الأبرار، ولشهداء البلاد ممن فقدنا في هذه الحرب اللعينة، وما زلنا نردد شعارات الثورة الخالدة.. “حرية.. سلام.. وعدالة.. الثورة خيار الشعب”.

“الثورة ثورة شعب

والسلطة سلطة شعب

العسكر للثكنات 

والجنجويد ينحل”.

وائل محجوب

كاتب صحفي ومحلل سياسي معتمد لدى العديد من القنوات الفضائية العربية وله مساهمات نظرية في القوانين المنظمة لمهنة الاعلام، وقدم العديد من أوراق العمل والبحوث في محاصرة خطاب الكراهية وأخلاقيات مهنة الصحافة عمل مديرا لتحرير صحيفة الأيام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى