قراءة في الجذور الفكرية للحركة الإسلامية السودانية والحصاد المر
الحلقة الثالثة: الدولة الإسلامية الواقع والمتخيل !!

استعرضت الحلقة الثانية المصادر الفكرية للحركة الإسلامية السودانية، وأوضحت أن الحركة عجزت عن تقديم نظرية حقيقة من فقه الواقع تعتمد المواءمة بين التراث والحداثة واكتفت بالشعارات فانتهت إلى التجريب الاعتباطي مجبرة بوقائع الحكم والحياة.
تدعي الحركة الإسلامية السودانية أنها تسعي إلى إقامة الدولة الإسلامية ـــ تسمى أحياناً دولة الشريعةــــ، دولة تعتمد الدين الإسلامي مرجعاً اساسياً للحكم وذلك بفهم بسيط أن الله خالق الكون والخلق وانه أعلم منهم بما يفيدهم في دينهم ومعاشهم واليوم الآخر.
من الأهمية تعريف بعض المفاهيم في موضوع الدولة والإسلام منعاً للالتباس، لتكتمل صورة الدولة الإسلامية في الواقع والمتخيل للمسلمين عامة والحركة الإسلامية على الأخص .
يعرف القانون الدولي الدولة بأنها عبارة “عن مجموعة من الأفراد يُقيمون معا في إقليم معين ويخضعون لنظام سياسي مُتفق عليه فيما بينهم يتولى شؤون الدولة. وتشرف الدولة على أنشطة سياسية واقتصادية واجتماعية هدفها التقدم وتحسين مستوى حياة الأفراد فيها”. يمكن تبسيط التعريف بأن الدولة تتكون من الاضلاع الرئيسية الثلاثة الأرض – الشعب – النظام السياسي، أرض الدولة هي حدودها وموقعها الجغرافي والمحتوية على الموارد التي تعود بالمنفعة علي شعب الدولة، اما الشعب فهم سكان هذه الأرض وأصحاب السيادة عليها وتتكون الشعوب في الغالب الاعم من إثنيات وقبائل تختلف في المعتقدات، اللغات، الثقافة والتراث، وما يجمعهم علي هذه الأرض المعروفة باسم الوطن هو المواطنة، أما الضلع الثالث للدولة هو النظام السياسي، فالنظام السياسي يشمل الدستور، الحكومة، القوانين المنظمة لعلاقات للأفراد والمجموعات.
هنالك خلط شائع بين مفهومي الدولة والحكومة، وكثير مما تتم الإشارة إليه باعتباره دولة هو في الحقيقة إشارة إلى الحكومة، فعندما نقول رئيس الدولة نقصد في الحقيقة رئيس الحكومة، فالنظام القضائي مثلا مستقل عن سلطان رئيس الحكومة ولا يخضع له، وعندما نقول دولة مارقة أو إرهابية بالتأكيد لا نقصد الأرض ولا الشعب ولا حتى مجموع النظام السياسي إنما المقصود الجزء التنفيذي من النظام السياسي ممثلا فقط في الحكومة.
الإسلام دين يؤمن اتباعه انه دين منزل من خالق الكون، والدين الإسلامي يشكل مع اليهودية والمسيحية ما يعرف بالأديان الإبراهيمية أو الأديان السماوية وهو خاتم الرسالات ورسوله محمد هو خاتم الانبياء والمرسلين، والإسلام مثله مثل كل الديانات الإبراهيمية الأخرى له مرجع معتمد هو القرآن وهو كتاب هداية وليس دستوراً للحكم والسياسة.
أما الفكر الإسلامي فهو اجتهاد بعض المسلمين لفهم الإسلام وتنزيله في حياة المسلمين، ولأن قامة البشر تختلف باختلاف العلوم، المصالح، الكسب اللدني وكذلك الحيز المكاني والزماني الذين يعيشون فيه، لذلك جاءت اجتهاداتهم وافهامهم لمراد الاسلام مختلفة الامر الذي ساق إلى انقسام المسلمين إلى مدارس وجماعات بعد انقسامهم الأول إلى سنة وشيعة وكل فريق يعتقد ان فهمه للإسلام هو الصحيح وهو مراد الله من التنزيل وانه وجماعته هم الفرقة الناجية الواردة في الحديث الصحيح للمعصوم “افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة” .
والسؤال الذي يثار دوماً لماذا اختلف المسلمون ولديهم كتاب واحد، والاجابة في قول الامام علي بن أبي طالب “القرآن لا ينطق انما ينطق به الرجال” وهذا ما اشرنا اليه في الفقرة السابقة. هذا الاختلاف والتعدد كان يمكن ان يكون مصدر قوة يجلي المراد من رب العباد لكن الاختلاف انتج الغلو والتكفير والحروب بين المسلمين وهذا الاختلاف هو الدليل الناصح علي عدم امكانية قيام دولة للمسلمين لديها مرجع إسلامي واحد او مذهب إسلامي واحد.
تحاول الحركات الإسلامية الزعم ان الدولة – الدولة مجازاً – التي تسعى إلى إنجازها هي دولة دينية وليست دولة سياسية مثلها مثل كل دول العالم يصل فيها الافراد للسلطة بعدة طرق ليس من بينها الوحي، ودليلهم لتلك الدولة المثال هي دولة الرسول صلوات الله وسلامه عليه “الرسول قدوتنا “.
اختلف الفكر الاسلامي حول مفهوم الدولة التي أقامها الرسول، عما إذا كانت بالفعل دولة دينية! فبعضهم رفض ذلك، والبعض الآخر تقبل الفكرة مع الإقرار بأنها كانت دولة دينية خاصة وفق شروط خاصة مرتبطة برسول الاسلام ولا يمكن تكرارها أي انها غير ممكنة التطبيق بعد وفاة الرسول ولا في وقتنا الحالي.
دكتور عبدالله النعيم ــــــ مفكر واستاذ للقانون الدستوري ــــــ يحدد في كتابه المميز – الإسلام وعلمانية الدولة – ” بطلان مفهوم الدولة الدينية” و”ان فكرة الدولة الدينية لا تستقيم عقلاً ولا ديناً” لماذا؟ “لأنها تنسب التدين للدولة، والدولة هي مؤسسة سياسية بالأساس ولا تمتلك ان تعتقد في أي دين أو تمارس شعائره” . وهو عين ما عبر عنه المفكر الشهيد جون قرنق بكلمات بسيطة “إننا لم نشاهد دولة تذهب للجامع يوم الجمعة أو الكنيسة يوم الاحد، ولم نشاهد دولة ذهبت للحج انما الافراد هم الذين يذهبون للجوامع أو الكنائس” ولعل في الآية القرآنية “وكلهم آتيه يوم القيامة فردا” مصدقاً لقول قرنق والنعيم بان الدين والتدين والثواب والعقاب للأفراد وليس للجماعات أو الدول.
الشيخ خليل عبدالكريم ــــــ مفكر إسلامي ــــــ من الذين اجازوا ان دولة الرسول كانت دولة دينية لكنه جزم بعدم إمكانية تكرارها وان كل ما جاء بعدها من دول هي دول سياسية بحتة وحدد في مقالته الهامة – الإسلام بين الدولة الدينية والدولة المدنية -المنشورة في سلسلة الاعمال الكاملة بعنوان – نحو فكر إسلامي جديد- حدد الفروق الرئيسة بين الدولة الدينية والدولة السياسية في طريقة اختيار وعزل رأس الدولة، الوحي والعلاقة مع السماء، الطاعة والمعصية لرأس الدولة.
الدولة الدينية ــــ كما حدد عبدالكريم ــــــ “يختار رأسها الله، بينما الدولة السياسية ينتخب الشعب رأسها أو يرث الحكم أو يستولي على السلطة بانقلاب عسكري” مخادع يذهب بعراب التنظيم إلى السجن حبيساً بينما يذهب التنظيم إلى القصر رئيسا.
في الدولة الدينية يظل رئيسها علي علاقة دائمة بالله عن طريق الوحي وهذا يؤثر في قرارته بالطبع، أما رئيس الدولة السياسية فليس له مرشد من الله وقرارته خاضعة لتقديرات بشرية بحتة مثل قرار قتل الآلاف في دارفور بدون سبب ثم ابداء الندم لاحقاً.
في الدولة الدينية رأس الدولة محروس من السماء ولعل في اغتيال ثلاثة من الخلفاء الراشدين الأربعة دليل آخر على ان دولهم كانت دول سياسية، اما رأس الدولة السياسة فليس له حراسة من السماء مهما ادعى فحراسته من الأرض اما في رضاء شعبه أو من أجهزة الامن المتعددة.
نواصل في الحلقة القادمة إكمال الفروق بين الدولة الدينية والدولة السياسية، ونوضح لماذا تسعى الحركة الإسلامية على التمسك بصبغة دينية لنظامهم ثم نتناول قوانين الشريعة الإسلامية المقدمة كأساس للحكم من الحركة الإسلامية .