السودان على سلة المبادرات العثمانية:
التمدد التركي بمعادلات الاقتصاد ولعبة المصالح

تسعى تركيا إلى نسج خيوط من حرير السياسة البراغماتية ودبلوماسية المصالح لصنع بزة اقتصادية زاهية وتوسيع نفوذ الدولة الناهضة في ظل الأردوغانية واستعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية العتيدة. استغلت أنقرة تقلص نفوذ إيران الإقليمي ما بعد الحرب في غزة في أكتوبر 2023 – فلسطين، لبنان وسوريا – وتراجع الدور المصري الإقليمي بسبب الأزمات الاقتصادية – حجم إيرادات الدولة 55 مليار دولار وحجم العجز يبلغ 26 مليار دولار حسب موازنة 2024-2025 – وعدم نجاح خطط وتدخلات بعض دول الخليج لتكون الدولة المركزية في المنطقة وإخفاقها في ملفات فلسطين، سوريا، العراق، لبنان واليمن والسودان إضافة إلى هواجسها من المطامع الإيرانية وفقدانها للتوازن العسكري مع منافسها الإيراني.
في ظل هذا المناخ ينحو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان صاحب الطموح الطاغي الذي ظل ممسكًا بصولجان السلطة لأكثر من عقدين من الزمان لتوسيع نفوذ بلاده لتكون الدولة المحورية في الإقليم وجسر التواصل بين الغرب والشرق، كما ظلت جغرافيا تركيا دومًا معبرًا بين أوربا وآسيا. تركيا لديها هدف استراتيجي بأن تكون عضوًا في الاتحاد الأوربي لأن هذه الخطوة من شأنها إحداث نقلة كبيرة في الاقتصاد وفتح أسواق جديدة بلا حدود للمنتجات التركية. ومن أجل مصالحها الذاتية وفي سبيل الطموح الإقليمي لعبت الدور الرئيسي الخارجي في تغيير نظام حكم الأسد في سوريا وتفكيك النفوذ الروسي والإيراني ثم تقدمت بمبادرة وساطة بين إثيوبيا والصومال. وأخيرًا افترعت مبادرة لتجفيف منابع التوتر بين السودان والإمارات. بالتأكيد الرئيس التركي يسعى عبر الدور الدبلوماسي لكسب ود الغرب ودول الخليج لفتح أسواق جديدة لبلاده وطرق أبواب الاستثمارات المشتركة، فهو يدرك الرافعة لحزبه الحاكم – العدالة والتنمية – هو الاقتصاد وهو حصان طروادة لكسب أصوات الناخبين.
الملف السوداني:
تركيا لديها علاقات تاريخية في السودان بدأت عام 1555م بوضع يدها على سواكن في شرق السودان كما استعمرت السودان 1821- 1885م وحكمت السودان بالحديد والنار. ولكن ما برحت للحقبة التركية آثار ثقافية عميقة في المجتمع السوداني. ولدى أنقرة توجهات بأن يكون لها موطئ قدم في سواحل البحر في السودان ويصير لها ميناء يعزز تجارتها وحركة سفنها في كل البحر الأحمر وتوسيع استثماراتها في السودان في مجالات تنقيب الذهب والزراعة والبنيات التحتية، كما أن الاقتصاد السوداني بهشاشته الصناعية يمكن أن يكون سوقًا مزدهرًا للمصنوعات التركية ونافذة تجارية للدول الأفريقية الحبيسة من الشواطئ والمجاورة للسودان مثل إثيوبيا وتشاد وجنوب السودان ودول أخرى “حجم التبادل التجاري بين تركيا وأفريقيا حوالي 27 مليار دولار لعام 2024 مقارنة بـ5.4 مليار في عام 2003 “. ويقدر حجم التبادل التجاري السنوي بين السودان وتركيا بـ 500 مليون دولار. كذلك رفع معدلات نفوذ أنقرة في السودان يزيد من دورها المتنامي في ليبيا الدولة الغنية بالنفط. فهي تساند حكومة طرابلس بصورة مؤثرة عسكريًا وسياسيًا.. ولتركيا طموحها المتزايد في البحر الأبيض المتوسط والتنقيب عن الغاز هناك إلى جانب تعزيز نفوذها في جزيرة قبرص المتوسطية.
ولتركيا علاقات ومصالح وطيدة مع طرفي الحرب في السودان فهي مورد سلاح للجيش السوداني كما أن العديد من كبار داعمي الجيش من التيار الإسلامي لديهم استثمارات وعقارات وودائع بنكية آمنة في تركيا وبعض القادة من العسكريين لديهم مدخرات وأملاك هناك. وعلى الجانب الآخر لزعيم الدعم السريع وأسرته استثمارات ضخمة في مجالات مختلفة في تركيا. وبذا تكون تركيا ملاذًا آمنًا لهذه الاستثمارات والأموال السودانية. وهذه المصالح المشتركة لأطراف سودانية فاعلة تجعل لتركيا كروت ضغط ومطامع ومصالح كما أن هذه المصالح المشتركة صارت مظلة من الثقة من طرفي الحرب ومساندي الجيش في الدور التركي. وأنقرة أصلا ترغب في سودان مستقر حتى تحقق مصالحها الاقتصادية والسياسية والأمنية واللوجستية في السودان.
شراكات تجارية:
على الضفة الأخرى تحصد المبادرة التركية القبول الإماراتي بحكم المصالح الاقتصادية والتجارية بين البلدين ويقدر حجم التبادل التجاري السنوي غير النفطي سنويًا بين البلدين 20 مليار دولار، ويتوقع أن يصل إلى 40 مليار بعد خمس سنوات. وبلغ حجم أصول صندوق أبوظبي السيادي للاستثمار 1.7 ترليون دولار 2024، بحسب شركة الاستشارات “غلوبال إس دابليو إف” (Global SWF). وللإمارات فوائض مالية ضخمة ويبلغ حجم التضخم لعام 2024 حوالي 1.8% حسب البنك المركزي الإماراتي. وتبلغ حجم الاستثمارات الإماراتية في تركيا حوالي 8 مليارات دولار وترغب تركيا في رفع معدلات التعاون التجاري مع الدولة الخليجية الغنية. علمًا بأن حجم التبادل التجاري السنوي بين تركيا ودول التعاون الخليجي بلغ حوالي 31 مليار دولار حسب الإحصاءات التركية الرسمية لعام 2023. فيما يقدر حجم التجارة البينية بين تركيا والدول العربية كافة بـ55 مليار دولار. من هذه الإحصاءات يتضح أن الإمارات هي أكبر شريك تجاري من دول الخليج مع تركيا لذلك فإن المصالح هي من تدفع تركيا للعب دور الوسيط إلى جانب أن الإمارات صاحبة نفوذ قوي على قوات وقادة الدعم السريع. وكانت الإمارات وتركيا لعبتا سويًا دورًا محوريًا في مساندة حكم الرئيس الإثيوبي أبي أحمد إبان حربه ضد التقراي بتوفير سلاسل الإمداد العسكري والطائرات المسيرة التركية نسبة لتوافر إرادة المصالح الاقتصادية والجيوبوليتكية المشتركة للإمارات وتركيا في إثيوبيا. وتنشط تركيا للانتشار العسكري والتجاري في الصومال وجيبوتي أي أنها تسعى للتمدد في القرن الإفريقي والبحر الأحمر.
المجد العثماني:
وعلى الرغم من المظهر الإسلامي الناعم لحزب الرئيس أردوغان ولكنه يتمسك بعلمانية الدولة الأتاتوركية وهذا من شأنه إدخار ميراث تركيا الحديثة على المستوى الداخلي ولحفظ التوازن والقبول مع الغرب والاتحاد الأوربي خاصة. وليس لأردوغان بالطبع مشروع لتصدير المشروع الإسلامي مما يبعث الطمأنية لدول الخليج.
أردوغان مشروعه الأساسي هو استعادة دور بلاده التاريخي أسوة بالتركية العثمانية. والإسلام بالنسبة له هو تراث الأمة وعامل للنهضة وإحياء روح الإمبراطورية العثمانية لدى الشعب وتعزيز الدور الثقافي لتركيا ويطلق على أعضاء حزبه في الحملات الانتخابية أحفاد العثمانية. وأردوغان يجيد التفاوض وفنون التوازنات واللعب بالتناقضات محليًا وإقليميًا ودوليًا وتحركه المصالح الاقتصادية البراغماتية السياسية وليس الأيدولوجيا واستغل مآلات المحاولة الانقلابية الفاشلة في عام 2016 لتصفية خصومه وإحكام قبضته على السلطة حتى صار أقرب لسلطان متوج أكثر من أنه رئيس جمهورية. وهو يوظف كل ما لدى تركيا من موقع جغرافي وموارد اقتصادية – عضو دول الـ20 أقوى اقتصاد في العالم – وصلات دبلوماسية وعسكرية – عضو حلف الناتو – لكي تصبح بلاده قوة اقتصادية مركزية على مستوي العالم. وتركيا تسعى لزيادة تبادلها التجاري مع الدول الخليجية. في السنوات الأخيرة شهد اقتصادها تراجعًا وبلغ معدل العجز في الموازنة حتى نهاية سبتمبر الماضي 2024 حوالى 31 مليار دولارًا مقارنة بعجز 15 مليار دولار في الأشهر التسع الأولى من موازنة 2023 أي أن عجز الموازنة ارتفع بمعدل 110% وبلغ حجم التضخم لشهر نوفمبر 2024 حوالي 47%. مما يستوجب سياسات داخلية وخارجية توظف لصالح فتح أسواق واستمارات وشراكات تجارية دولية جديدة. ورغم هذه المصاعب الاقتصادية ما تزال تركيا إحدى أكبر الاقتصاديات العالمية. وبلغت صادرات تركيا في الأشهر التسع الأولى لعام 2024 حوالي 193 مليار دولار مع تحسن وضعيتها في التصنيف الائتماني العالمي.
شبكات مصالح وتحديات:
شبكات المصالح المتشابكة لتركيا مع الإمارات والسودان يؤهلها للعب دور الوسيط بين السودان والإمارات كخطوة تمهيدية لإنجاح سبل الوصول لوقف إطلاق النار بين الجيش والدعم السريع.
أبرز التحديات التي تواجه الدور التركي في الإقليم عامة وفي السودان خاصة هو التنسيق ومراعاة تقاطع المصالح مع دول المنطقة خاصة السعودية ومصر وقطر والإمارات وعدم كسب عداء إيران وروسيا. ونجاح أي جهود لوقف الحرب يتطلب في المقام الأول توفر الإرادة السياسية للاطراف السودانية لوقف الحرب وتحييد أي أطراف خارجية من التدخل في دعم استمرار الحرب. ويبقى هناك دومًا التنافس التركي – الإيراني ليس على منطقة الشرق الأوسط وحدها ولكن يمتد أيضًا في منطقة آسيا الوسطى “القوقاز” وهذا التنافس المحتدم يمثل تحديًا بارزًا ومزمنًا “فارسي – عثماني” لأي دور لأنقرة في المنطقة وهو تنافس على النفوذ تاريخي حضاري واقتصادي تجاري وسياسي وديني مذهبي. ولكن يبقى التحدي الرئيسي لأي جهود تركية في إيقاف الحرب في السودان وفي دول أخرى. هو الحصول على إشارات مرور خضراء من سيد البيت البيضاوي الجديد دونالد ترامب لأن واشنطون هي سيدة العالم الجديد وهي قائدة قطار التفاوض في السودان. وعلى الرغم من التوقعات بتراجع الاهتمام الأمريكي بالسودان في عهد ترامب والحزب الجمهوري ولكن هذه لا يعني أن لا تكون أمريكا صاحبة الكعب الأعلي بحكم قاعدة المصالح التي تربط دول الإقليم اقتصاديًا وتجاريًا وعسكريًا وأمنيًا ودبلوماسيًا مع واشنطن التي تقوم بدور المنسق لتوزيع الأادوار وضمان عدم انفجار تقاطع المصالح في الإقليم بالتوافق مع حلفيها ووكيلها الاستراتيجي إسرائيل. بلغ الناتج المحلي الأمريكي لعام 2024 حوالي 28.7 ترليون دولار من مجمل الناتج المحلي لدول العشرين والبالغ 86 ترليون دولار أي بنسبة 27% وهذا يوضح مدى قوة الاقتصاد الأمريكي مقارنة بأكبر 20 اقتصاد عالميًا ومقدرتها على التأثير دوليًا. فلغة المصالح ومعادلات الثروة والقوة العسكرية هي من تسود في عالم اليوم ويتخلق عبرها توازن القوى الدولية والإقليمية.