الدولة السودانية: تاريخ حافل من الإفلات من العقاب 

سمير شيخ إدريس المحامي
سمير شيخ إدريس المحامي

تملك الدولة السودانية سجلا حافلا من العنف والمظالم التاريخية في مواجهة مواطنيها منذ بواكير الاستقلال يقابله السجل الأكبر من إفلات مرتكبي جرائم العنف من العقاب حيث لم يخضع أي مسؤول عنها للعقاب حتى تاريخنا الحاضر، ويعود ذلك بشكل أساسي لكون العنف الذي مورس كان يتم من قبل الدولة التي إلى جانب امتلاكها أدوات العنف فهي تحكم قبضتها على التشريعات والقوانين وأدوات إنفاذ القانون بما في ذلك إحكامها على القضاء ومنعه من أي استقلال وبالتالي تشكل الدرع الحامي لأفرادها من المساءلة والعقاب، ولأن الدولة السودانية حكمت في غالب سنواتها بأنظمة عسكرية ديكتاتورية تنسب لها فظائع العنف الواقع على المدنيين سهل ذلك الأمر لتكريس مفهوم الإفلات من العقاب، وحتى الفترات القصيرة التي شهدت حكومات مدنية أعقبت الثورات على الأنظمة الديكتاتورية فقد اتسمت تلك الحكومات بالضعف وعدم الجدية في محاسبة الأنظمة البائدة، كما لم يتح لها الوقت الكافي لبناء دولة مؤسسات تشريعية وتنفيذية قادرة على تأسيس أنظمة قانونية قادرة على محاسبة وردع مقترفي تلك الجرائم وجعلهم عبرة لمن يقدم على إعادة اقتراف ذلك الجرم، ما أتاح المزيد من إساءة الأدب طالما توافر مفهوم الأمن من العقاب، إضافة لأمر آخر أدى لتعميق صعوبة المحاسبة يتعلق بطبيعة المجتمع السوداني نفسه المنقسم وفقا لتباينات قبلية وعرقية وطائفية شهدت تأريخا حافلا من النزاعات أدت في كثير من الأحيان لتهديد نشوء سلام اجتماعي في الدولة لضلوعها في العنف إما بسبب الصراعات والنزاعات بين تلك الطوائف أو باستخدامها كمطية في يد السلطة لتصفية معارضيها، وفي كلا الحالتين يتم استخدام ذلك التباين والانتماء الطائفي والقبلي لحماية أفرادها من مقترفي العنف المرتكب بواسطة تلك الجماعات للإفلات من المساءلة والعقاب. 

علي ذلك فإن إخفاق الدولة السودانية على مدار تاريخها وعدم قدرتها على ملاحقة الجرائم وتكرر حالات الإفلات من العقاب أصبح إرثا يوصم التجربة بكاملها ويعد سببا رئيسيا لما آلت إليه الأوضاع مستقبلا، حيث لم يتم تقديم أي مجرم للعقاب من مسؤولي مذبحة عنبر جودة بعد أشهر قليلة من الاستقلال 1956، كما لم تتم محاسبة جادة لنظام عبود على جريمة قتل المتظاهرين وتشريد الأهالي غصبا، وأفلت منسوبو نظام مايو بما اقترفوا من جرائم التعذيب والانتهاكات والقتل في الجزيرة أبا 1970 وترحيل الفلاشا مثلما مرت مذبحة الضعين 1987 مرور الكرام ورفضت الحكومة المدنية وقتها تقديم الجناة للمحاكمة ووسمت بالجريمة المسكوت عنها، وفي عهد الإنقاذ الذي يعد أكثر العهود انتهاكا لحقوق المواطنين منذ إعدام ضباط رمضان ودفن بعضهم أحياء والجرائم بقتل وتصفية المعتقلين في بيوت الأشباح والطلاب في جامعة الخرطوم والجزيرة وفي العيلفون وبورتسودان وكجبار ومتظاهري الثورة 2018 وتعد أفظع إنتهاكاتهم تلك التي أندت جبين الإنسانية بسقوط 300 ألف قتيل و4 ملايين نازح في دارفور 2003 وفي النيل الأزرق وجبال النوبة وغيرها من جرائم الفساد والمحسوبية التي ينعم مرتكبوها برفاهية ما سرقوه من مال الشعب في ملاهي تركيا وماليزيا وغيرها، بل امتدت جرائم الإنقاذ لما بعد سقوط نظامهم عبر مخالبهم المسؤولين عن مجزرة فض الاعتصام 2019 رغم معرفة مرتكبيها الذين أقروا بمسؤوليتهم عن التخطيط والتنفيذ للمجزرة وقتلى انقلاب 2021 ونشوب حرب أبريل 2023 وما صاحبها من انتهاكات ودمار وتشريد طال غالبية الشعب التي لم تكن ليتم اقترافها لولا ركون الفاعلين لهذا الإرث المتنامي في الدولة في الإفلات من العقاب.

ارتبط مفهوم الإفلات من العقاب بمبدأ آخر هو العدالة الانتقالية ورغم نجاح تحقيق هذا المبدأ جزئيا في بعض المناطق إلا أن التسويق له في السودان لم يكن منزها من غرض الالتفاف لتفادي المحاسبة والتكريس للإفلات من العقاب، ففي الفترة التي علت فيها أصوات الضحايا وأسرهم مطالبين بالقصاص من المجرمين ومحاسبتهم كانت الحكومة المدنية ما بعد الثورة في تحالف مع المتورطين أنفسهم الذين ما فتئوا يحاولون إجهاض مشروع الثورة القائم على تحقيق العدالة بكافة أشكال التربص الذي انتهى بالانقلاب على الثورة والحكومة المدنية بسبب الخوف من بلوغ تلك الغاية التي ستفضي بهم للمشانق، لذلك كان التلويح بتطبيق مبدأ العدالة الانتقالية ليس إلا كسبا للوقت مع التربص للحظة الانقضاض حيث لا أمان لهم مع تعالي المد الثوري. 

فالعدالة الانتقالية كي تسود لها اشتراطاتها التي لم تتوفر في المشهد السياسي وقتها وكانت النية تتجه فقط لتبرئة المجرمين وليس تحقيق العدالة وإنصاف الضحايا، فالعدالة الانتقالية في مفهوم الروح القانوني الدولي تشمل كل العمليات والآليات لتجاوز تركة ماضوية واسعة من الانتهاكات من أجل العدالة والإنصاف وتحقيف المصالحة في المجتمع ليصبح قادرا على النهوض من عبء تلك التركة وهي تشترط بذلك الإصلاح المؤسسي القادر على تطبيقها والملتزم بمعايير القانون الدولي والأمم المتحدة لحقوق الإنسان بأن تحقق تدابير العدالة الإنتقالية مستقبلا عادلا للجماهير بعرض الجرائم المرتكبة وأسبابها الناشئة عن عنف منهجي طويل دون عقاب وذلك بالمحاسبة لمرتكبي الجرائم بعقابهم أو بالمصالحة المرضية للضحايا وإمكان تعويضهم عن الضرر إضافة لشرط جوهري يتضمن عدم تجدد الانتهاكات وهو ما لم يكن متوافرا بالقرب أو البعد عن المشهد آنذاك ونوايا العسكر واستعدادهم للمواجهة والمحاسبة. فالدولة الوليدة بعد الثورة كانت في وضع المقدرة ولم تكن في وضع الانهيار والنزاعات المتشابكة لإحلال سلام يفضي لحل نزاع قائم، بدلالة تشكيل العديد من اللجان للتحقيق حول جرائم النظام البائد وجرائم شريك السلطة العسكري التي انخرط بعضها بجدية في التحقيق لكنها جوبهت بوضع العراقيل من المتورطين وأذيال النظام السابق في عمق الدولة لما كان يملكه من تأثير ونفوذ لا يزال غياب الجدية والارادة من قبل السلطة المدنية والقوى الثورية التي تماهت في الشراكة مع الحليف العسكري والنزوع نحو تحقيق المصالح والتشبث بكرسي السلطة بشكل أضعف من قدرتها على تلبية تطلعات الضحايا وأسرهم لتحقيق العدالة ومحو المظالم التاريخية وهو ذات الضعف الذي أفضى في نهاية الأمر لإنقلاب الشريك عليهم وزجهم في السجون، ورغما عن ذلك لم تع تلك القوى الدرس وشرعت في البحث عن حلف جديد ومحاولة إعطاء قبلة حياة للسلطة الانقلابية عبر شراكة جديدة لتعيد ترسيخ مبدأ الإفلات من العقاب وهو الأمر الذي أفضى بتضافر عوامل أخري لنشوب الحرب الماثلة. 

مع التطور والتعاون القانوني والسياسي على المستوى العالمي أصبحت مسألة الإفلات من العقاب تأخذ حيزا واسعا من الحماية بواسطة القوانين والمعاهدات الدولية التي تلزم المنضوين تحت منظومتها لتفعيل تلك القوانين لتكون جزءا من القوانين الداخلية للدول، ويكون لتلك المنظومات والدول القدرة على المساعدة في تطبيق عدم الإفلات من العقاب بما تملكه من سطوة وقوة إجبار الدول على الالتزام بالقانون الدولي والمبادئ العامة المتعلقة بحقوق الإنسان وتحقيق العدالة، ورغما عن ذلك فقد أخفقت الكثير من المنظمات الدولية والإقليمية والدول ذات النفوذ فيها عن تلبية رغبات غالبية الجماهير في الدول التي تعاني ظاهرة الإفلات من العقاب في قيام تلك المنظمات والدول على المساعدة من أجل إجبار الحكومات للخضوع للقانون والحماية من الجرائم المرتكبة ومحاسبة مرتكبيها سيما وأن فكرة المحكمة الجنائية الدولية جاءت لوضع حد لهذه الانتهاكات وإنهاء الإفلات من العقاب ورغما عن ذلك يظل جهدها في مكافحة الانتهاكات لا يذكر وذلك لتشابك المصالح الدولية وتغليبها على المبادئ القانونية، وعلى الشعوب عدم الركون على جهد تلك المنظومات في رد المظالم التي حاقت بها وأن تواصل جهدها بحثا عن العدالة وعدم الإفلات من عقاب تلك الجرائم التي لا تسقط بالتقادم في مواجهة مرتكبيها الذين لن يكونوا بمنأى عن المحاسبة طالما ظلت غاية تحركها إرادة الشعوب.

على ذلك فإن مبدأ المحاسبة وعدم الإفلات من العقاب لن يبلغ منال التحقيق إلا بتهيئة المناخ الملائم له باشتراط تحقق دولة المؤسسات التي تحترم وتحمي حقوق الإنسان والقادرة على تأسيس نظام قانوني فاعل متسق مع القانون الدولي وذي قدرة على القيام بدوره على منع احتكار الدولة للعنف والمحاسبة والردع دون خشية السلطة وباستقلال تام عنها بل تكون له القدرة على الرقابة لأفعال السلطة نفسها والقدرة على محاسبتها، يضاف إليه التحقق من المبادئ الثورية التي نودي بها لتحقيق مجتمع المساواة ودولة المواطنة التي تسمو على سيادة سطوة القبيلة والنعرات العنصرية والجهوية والإنتماء الطائفي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى