أدوات التحريض سيئة السمعة

أفق جديد

لم تمض ليالٍ معدودة على انتفاضة السودانيين ضد نظام البشير في العام 2019، حتى أزكمت أنوفهم مجدداً روائح الفتن القبلية والعنصرية التي عمّت فضائهم السياسي والاجتماعي، بعدما ظنوا أنّ الصفاء عاد لسمائهم.
وفي غضون أسابيع، عقب الاعتصام المشهود للثوار السودانيين على أسوار القيادة العامة للجيش، كانت أطراف البلاد القصيّة تروي فصولاً من سيرة الصراعات العشائرية.
كانت البداية من إقليم دارفور، في غرب البلاد، حين نشب شجار بمدينة الجنينة بين شباب متبايني الإثنيات في أحد أندية المشاهدة.
إثر المشادة لقي ثلاثة أفراد حتفهم. وفي صبيحة اليوم التالي، وتحت وقع الطبول، كانت هناك تجريدة مضادة للثأر أودت بحياة عشرات القتلى وشرّدت المئات من معسكر (كريندينق) للاجئين.
بعيداً عن الغرب، وفي ذات التوقيت على وجه التقريب كان شرق البلاد يشهد هو الآخر اشتباكات قبلية مماثلة في ولايات البحر الأحمر وكسلا. كما جرت أعمال حرق ونهب طائفية واسعة النطاق في بورتسودان، ضمن نزاعات طائفية أخرى، وهي مواجهات متكررة تَكَبَّدَ جراءها الإقليم مئات القتلى والجرحى خلال السنوات القليلة الماضية.

تلاعب السياسيين
تلقي العديد من الفاعليات الثورية باللائمة على نظام الإخوان في السودان لكونه قد فاقم البعد القبلي للصراع في إقليم دارفور، وأوقد ضرام حربها المسترسلة منذ العام 2003.
ومن وجهة نظر الناشط المجتمعي آدم رُجَّالْ، الذي يشغل موقع الناطق الرسمي باسم المنسقية العامة للنازحين واللاجئين في دارفور، فإنّ الأنظمة المتعاقبة تتعمد نثر بذور الكراهية لتقسيم المجتمعات حتى ولو أدّى ذلك إلى تمزيق النسيج الاجتماعي، فهذا ثمنٌ زهيد مقابل احتفاظها بالسلطة.
ويعضّد أستاذ الإعلام بالجامعة الخليجية في البحرين، الدكتور عبد الله إبراهيم الطاهر، شهادة المتحدث باسم منسقيّة النازحين، مشيراً إلى استخدام خطاب الكراهية أحياناً من قبل الحكّام لأغراض التلاعب السياسي، رغم الانقسامات المجتمعيّة الناجمة عنه.
وتترتّب على خطاب التمييز العرقي تبعات على السلم المجتمعي، كما يقول الطاهر؛ إذ يؤدي إلى تنامي الشعور بالعزلة والتهميش لدى أفراد الجماعات المستهدفة.

أدوات سيئة السمعة
بالنسبة لرحاب سيد أحمد، الناشطة والمدافعة الحقوقيّة، فإن خطاب الكراهية تنامى في الفترة الأخيرة بصورة مخيفة. وتقول رحاب إنّ النظام البائد تعمّد صناعة المُكر والدسائس إبّان سنوات حكمه، مشيرةً إلى عودته مرّة أخرى إلى الواجهة ليؤجج نار الفتنة وسط القبائل وخطاب الكراهية عبر الإعلام المضلل ومن سمتهم (اللايفاتية)، وهم مؤثرون يعملون على نشر وجهات نظر مؤيدة للإخوان عبر منافذ البث المباشر في تطبيقات الهواتف النقالة.
وفي ذات المنحى يحاول آدم رُجَّالْ، المتحدث باسم النازحين ربط السياق الحالي للحرب بين الجيش والدعم السريع مع خطاب الكراهية المسترسل منذ عشرات السنين، مشيراً إلى أن معركة أبريل 2023 تتغذّى بالفعل من خطابات الكراهية التي ظلت تعمل منذ أمد بعيد، وتنخر في المجتمعات المحلية عبر تقسيم الناس. ويشير الناطق باسم النازحين إلى أن تقسيم الناس يمكن أن يكون بناءً على القبيلة أو اللون أو الدين أو الانتماء السياسي، مشيراً إلى أن النازحين “ظلوا يُعاملون على الدوام كما لو أنهم ليسوا بشراً، وهذا أيضاً من أشكال الكراهية”، كما يقول. ويصف محدّثنا هذه الأدوات بأنها “سيئة السمعة، ونتائجها تتراءى أمامنا اليوم”.

محصّلة طبيعيّة
من جهته يرى محمد المختار محمد، الصحفي ومدقق المعلومات المتخصص في مكافحة خطاب الكراهية والتطرف العنيف أن خطاب الكراهية يغذي الاستقطاب الاجتماعي من خلال استخدام لغة ازدرائية وتمييزية ضد الأشخاص والمجموعات على أساس الانتماء الإثني والعرقي أو القبلي أو النوع الاجتماعي.
ويبدي المختار أسفه للمستويات الخطيرة التي وصل إليها خطاب الكراهية، معتبراً أنها محصلة طبيعية للاستقطاب الذي أحدثته الحرب، مؤكداً أن تصاعد خطاب الكراهية والخطاب العدائي يمثل أزمة حقيقية ستواجه المجتمع السوداني، وأن هناك أعباء مستقبلية ستظل في الانتظار، مشيراً إلى أن تداعيات إزكاء نيران الحرب ودعوات مواصلة الصراع ستبقى مستمرة حتى بعد توقف القصف وانقطاع صوت الدانات.

شبكات التحريض
يتفق محمد عبد العزيز، السكرتير التنفيذي لنقابة الصحفيين السودانيين مع الرؤية التي تقول إن خطاب الكراهية وخطاب الحرب يتصلان ببعضهما. وطبقاً لعبد العزيز، الصحفي والباحث المهتم بالشؤون الرقمية وشبكات التواصل فإنّ هناك غرفاً منظمة تلعب دوراً في تأجيج الكراهية وبث خطابها ونشره بشكل واسع، بالتزامن مع عمليات تضليل ممنهجة بهدف التعبئة وتحقيق انتصارات عسكرية، فالحرب حالياً -من وجهة نظر عبد العزيز- تجري على مستويين؛ جبهة العمليات العسكرية على الأرض، وعبر منصات التواصل والشبكات الاجتماعية، التي باتت المحرك الأساسي للتحشيد وإثارة القلاقل بين المكونات الاجتماعية وتهويل الوقائع.

محركات الكراهية
يؤكد الباحث الأكاديمي وأستاذ الإعلام عبد الله الطاهر أنّ بعض وسائل الإعلام تسهم في نشر خطاب الكراهية من خلال تقديم تغطية متحيزة أو تضخيم الأحداث التي تغذي الكراهية بين الجماعات، وهو ذات ما تقول به إخلاص نمر، الناشطة الحقوقية والمهتمة بقضايا المرأة والنوع، مشيرةً إلى أن فضاءات الإعلام الجديد ووسائط التواصل الاجتماعي باتت المكان الأمثل لممارسة هذا الخطاب، مؤكدة صعوبة السيطرة عليه.

الأيادي الخارجيّة
يعرب محمد عبد العزيز عن أسفه كون أدوات التضليل الإعلامي تعمل بشكل ممنهج ومؤثر وبإمكانيات أعلى من الإمكانيات المحلية، ما يؤكّد وجود أطراف خارجية تنفق بلا حدود على عمليات التلاعب في الخوارزميات وتبث ما ترغب فيه.
في ذات المنحى يقول أستاذ الإعلام بالجامعات البحرينيةّ، عبد الله الطاهر إنّ شبهة التدخلات الأجنبية موجودة، وفي بعض الحالات، قد تكون هناك منظمات وجهات خارجية تعمل على استغلال الانقسامات العرقية والقبلية لتعزيز مصالحها في السودان، مشيراً إلى أن ذلك يتم من خلال دعم بعض الفصائل على حساب أخرى، أو من خلال تمويل حملات إعلامية أو دعائية تعزز الكراهية.
فيما يجيب محمد المختار على شبهة الأيادي الخارجية التي تغذي الصراع قائلاً إنّ جهات عديدة من مصلحتها تصعيد خطاب التمييز والانحياز منها الأطراف المنخرطة في النزاع وأنصارهم ومحازبيهم في وسائل التواصل، وأجهزة الأمن والاستخبارات العسكرية وغرف الدعاية الحربية وغرف التضليل، وغيرها. ويسترسل مختار منحيا باللائمة أيضاً على من سماها “جهات دينية وآيدلوجية بغيضة، تنشر خطاب الكراهية وتشرعن للقتل وقصف المدنيين”. وضمن تصنيفه كذلك للجهات التي تتعمّد نشر خطاب الكراهية والتطرف العنيف لا ينسى المختار ذمّ بعض واجهات الإعلام “التي تخلت عن أخلاقيات المهنة وأصبحت منحازة بشكل سافر لأحد طرفي الحرب”، بالإضافة إلى “بعض أهل الفن عبر تصريحاتهم أو أغنياتهم”.

ما العمل؟
تأمل الناشطة إخلاص نمر أن يضطلع المجتمع المدني بدوره للمساعدة في محاصرة خطاب الكراهية عبر تعزيز المبادرات الإيجابية وتمكين التدابير التعليمية لتوعية المجتمعات بغية بناء جيل متشرب بقيم التسامح والمحبة.
وطبقاً لإخلاص فإنّ العبء الأكبر يقع على مزوّدي خدمات الانترنت والشركات الكبيرة التي ينبغي أن تتخذ خطوات إيجابية لتحجيم خطاب الكراهية، وتعزيز تدابير السلامة للحد من المعلومات المغلوطة والمضللة، والعنف الذي ينهمر عبر وسائط التواصل الاجتماعي وصولاً لتكنولوجيا آمنة وأخلاقية.

التعليم وصرامة القوانين
ولا يبدي الطاهر اختلافاً كبيراً مع رؤية نمر، حيث يعوّل على الدور الكبير والأساسي للتعليم في تغيير الأفكار والمفاهيم المسبقة، مشيراً إلى أنه بالإمكان مواجهة خطاب الكراهية والتمييز العرقي والقبلي عبر نشر الوعي حول مخاطره والتعريف بأهمية التعايش السلمي، داعياً في السياق إلى إشراك المجتمع المدني، عبر المنظمات غير الحكومية التي لها دور مهم في مراقبة خطاب الكراهية والعمل على تعزيز التفاهم والتسامح بين الجماعات المختلفة. كما دعا الطاهر إلى وضع وتنفيذ قوانين صارمة تجرم خطاب التمييز، كخطوة ضرورية لحماية السلم المجتمعي، وهو التمييز الذي يدعو كذلك آدم رُجَّال لمحاربته بكل الأشكال الممكنة، كونه لا يؤدي إلا تراكم الغبن، “والغبن لا يبني الأوطان”، كما يقول، “بل تُبنى بالتسامح ونشر ثقافة السلام المجتمعي وتعزيز لغة الحوار”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى