رحلة نزوح من توتي حُبلى بالمخاطر
أم درمان – انتصار فضل الله
في جزيرة “توتي”، التي ظلت تحت الحصار طيلة الأشهر الماضية، فاجأ المخاض “رواية أحمد” (29 عامًا) لكنها احتملته بمشقة، ودون أنين، تفاديًا لتعرّض ما في أحشائها للأذى قبل صرخة الميلاد. كانت الفتاة تتحسس بطنها المُنتفخة بيدها في انتظار لحظة الطلق لإنجاب توأمها اللذين سبقت ضربات قلبيهما خروجهما إلى الحياة.. لحظات قاسية عاشتها الأم وهي تعتصر الألم في انتظار منحها تصريحا مكتوبًا من قبل عناصر قوات “الدعم السريع” الذين يسيطرون على مداخل ومخارج الجزيرة، لتتحرك بموجبه خارج توتي. في الأثناء كان الزوج يهرع في ذهول بحثا عن وسيلة يقل بها زوجته إلى مستشفى بشاير.
قضت “راوية” 3 أيام في المستشفى. تعثرت خلالها عملية الولادة التي تقرر أن تكون قيصرية جراء قطوعات التيار الكهربائي. في لحظات الانتظار الطويلة ظهرت امرأة ذات ملامح جميلة وبريئة وأخذت تتحدث مع النساء المقبلات على الإنجاب. بخطىً مسرعة اتجهت نحو “راوية” وتعرفت عليها ودار بينهما حديث طويل بشأن الحمل والأطفال.
“راوية” أم أيضًا لبنتين وولد أعمارهم بين الخامسة والتاسعة. روت لـ”أفق جديد” بصوت متهدج والعبرة تخنقها: “فتحت قلبي لتلك المرأة. أخبرتها أني حبلى بتوأم وأسكن توتي حي (الشتيرتاب) بالقرب من جامع (التقوى)؛ فأخبرتني هي بأنها من مدينة الأزهري وقد جاءت إلى المُستشفى لانتظار أسرتها القادمة لحضور ولادة شقيقتها بعد تحويلها من مستشفى (الرازي)”. تسترسل: “بدأت تهتم بحالتي الصحية وتسألني عن موعد الإنجاب، ثم انشغلت عنها بإجراء الفحوصات”. ظلت المرأة المجهولة في المكان حتى اليوم الثاني ملازمة لراوية ولم تفارقنها للحظة، “حتى كدت أنسى سبب تواجدها”. تقول: “عندما تذكرت سألتها عن أسرتها فقالت لي إنهم في الطريق”.
في اليوم الرابع من حضورها إلى المستشفى خضعت راوية لعملي وأنجبت توأمها. كانت تروي حكايتها وتمسح دموعها بطرف ثوبها: لم أعلم بأن هناك نهاية مأساوية يخفيها القدر. تم تحويلي إلى غرفة التنويم.. في (العنبر) كما تقول “غبت عن الوعي مدة خمسة دقائق جراء البنج المخدر، ولكن رغم ذلك شعرت بطيف تلك المرأة تحمل الطفلة وتستعد للخروج”. تقول راوية: “أوقفتها وسألتها: إلى أين تذهبين بطفلتي؟”.. ردت بأنّ والدها يريد أن يراها. طلبت منها بكل هدوء وعفوية ترك الطفلة لأن زوجي سيأتي للاطمئنان على صحتهم جميعا. ثم طلبت منها أن تحضر لي كوب ماء. “كنت أشعر بجفاف الريق، لكنها ذكرت لي أن الطبيب أوصى بعدم إعطائي الماء إلا بعد ساعات”.. تسترسل: “بعد إصرار أحضرت لي الماء فبمجرد شربها غرقت في نوم عميق جدًا لم تتجاوز فترته العشرة دقائق، ثم استيقظت على وقع خطوات زوجي وهي تبطئ نحوي، وصوت صراخ أحد أطفالي يملأ أرجاء المكان.. طلبت من والدهما أن يتفقدهما لكنه فاجأني بأن الموجود واحد فقط..! طلبت منه الإسراع إلى الخارج لأن هناك امرأة كانت تصرّ على حمل البنت إليك. نزلنا سويا نبحث في فناء المستشفى دون العثور عليها.. أبلغنا الإدارة والأمن بفقدان الطفلة فاتضح انها عملية خطف.. ورغم البحث لم نتوصل إلى نتيجة حتى مغادرتي المستشفى بإسعاف (عربة هايس) بعد الحصول على تصريح للخروج لتبدأ رحلة النزوح إلى مكان آمن”.
تناشد راوية؛ تلك المرأة المجهولة بأن تأتيها بطفلتها حتى تبل شوقها؛ فهي تدعو الله ليل نهار بأن يجمعها بها؛ فدموعها المنهمرة على خدود طفلها التوأم الصغير “معتصم” الذي أكمل شهره التاسع أخبرته بأن جزء منه مفقود فحرك جسده وفتح أعينه وكأنه يتفقد المكان باحثًا عن شقيقته التي ضاعت جراء الحرب اللعينة والتواجد الكثيف لقوات الدعم السريع في جزيرة “توتي”.
أسباب الهروب
تعاني الأسر التي ظلت في “توتي” أشد المُعاناة، وتفرض عناصر قوات “الدعم السريع” حصارًا قاسيًا بالحديد والنار على البلدة.
وطبقاً لراوية فإنها خرجت مثلها ومثل بقية الأسر في يوم 13 يوليو 2024 من توتي، ذلك بعد أن “جنّ جنون عناصر تلك القوات”، إذ أصبحوا يدخلون البيوت الخالية من السكان للإقامة فيها وسرقتها في نفس الوقت، ثم تطور الأمر -بحسبها- إلى اقتحام المنازل وتهديد الأسر وأخذ ما يملكونه عنوة.
وقدرت إحصائية تحصلت عليها “أفق جديد” عدد الأسر التي نزحت مؤخرا من جزيرة “توتي” بحوالي 851 أسرة تقيم حاليًا في مدينة الثورة بمحلية كررى، بمدينة أم درمان غربي العاصمة الخرطوم، فيما فاق العدد الكلي للنازحين آلاف الأسر، فروا جميعا من ويلات الحرب وسيطرة عناصر الدعم السريع على الجزيرة بالكامل.
وعاش سكان “توتي” أوضاعًا سيئة للغاية منذ بداية الحرب في مواجهة أبشع أنواع الإرهاب، حيث تعرضوا للنهب والسلب والانتهاكات بشتى الأنواع. وخرج الكثيرون قبل شهر يرافقهم الخوف بعد أن عانوا كثيرًا جراء التدوين والرصاص الطائش وتردي الأوضاع المعيشية والصحية واتساع دائرة الفقر.
قصص إحسان
مثلها و”راوية”، عانت “إحسان عمر أحمد” (30 عامًا)، جراء الوضع المؤلم. تقول لـ”أفق جديد”: “ليلة دخول الجيش السوداني مدينة المقرن بالخرطوم هرب جزء كبير من عناصر الدعم السريع من توتي، لكن سرعان ما جاءت قوة جديدة بأشكال مختلفة تهاجم الأسر في البيوت حاملين “الكلاشات” والأسلحة البيضاء من سكاكين، وسواطير، وفؤوس، وشاكوش، وأيادي مدق صلبة كما تسميها. “كانوا يأتوا 4 إلى 5 أفراد للأسرة الواحدة ولم يسلم من أذاهم بيت أو أسرة، فقد دخلوا كل البيوت؛ وأصبحوا مؤخرًا يهددون السكان في الشوارع لدرجة أصبحت هناك صعوبة في الخروج لشراء الاحتياجات الضرورية إلا بواسطة الرجال ورغم عن ذلك يقومون بتثبيتهم وضربهم ويسلبونهم قوت يومهم”..!
وتضيف إحسان بنبرة كلها ألم: “قضينا فترة 15 يوماً قبل مغادرة توتي”. كانت من أحلك الأيام كما تصفها “نرى فيها الموت كل لحظة، وعشنا خلالها انعداماً كاملاً للغذاء والعلاج والأطباء، فقد تم نهب كل الصيدليات، وتوقفت التكايا التي كانت تعمل بعد تعرضها للنهب، ووصلنا مرحلة تجويع وإرهاب وتهديد صعبة جداً قبل أن نفكر بجدية في الخروج.
كانت المليشيات نفسها تقف على العملية بعد فرض مبالغ مالية ضخمة جدًا تعادل المليارات على الأسر، وكان الترحيل يتم بواسطة (دفارات)، كما تقول.
نزوح إلى المجهول
تحركت عربة (الدفار) مسرعة وبحلول العصر وصلت إلى منطقة (السلمة البقالة). تقول إحسان: “كل مسافة خمسة دقائق في الطريق يوجد ارتكاز تفتيش تخص الدعامة. يقومون بتفتيش الشباب والرجال وأخذ الأرقام الوطنية ثم يطلبون من الأسر دفع رسوم عبور”. في ارتكاز السلمة طلبوا من الأسر الترجل من الدفار وأمروا السائق بالذهاب إلى حال سبيله رغم أنه استلم منهم مبلغ 3 مليون و500 ألف جنيه سوداني للوصول إلى منطقة (أم ضوا بان). غادر السائق دون الالتفات إليهم لأن الدعامة قرروا حجز الأسر في العراء واخضاعهم للتفتيش في الصباح الباكر..!
وتشير إحسان إلى أن “البعض تحدث مع أفراد من القوة المرتكزة حول طريقة الترحيل فطمأنوا الناس بإحضار عربة تقل الكل، وبالفعل بعد التفتيش أحضروا حافلة (روزا) بسعر مليون ونصف للأسرة إلى شندي”.
وتابعت إحسان بالقول: “تحركت الروزا ولم نقف إلا في الارتكازات، وهناك تعرضنا أيضًا لتفتيش قاسٍ جدا إلى أن وصلنا منطقة (ود حسونة) في الساعة العاشرة والنصف مساء”، مشيرة إلى أنهم لم يتناولوا طعاماً أو ماء طوال الطريق.
لم تنته رحلة المعاناة. ففي “ود حسونة”، حيث قطعت عليهم عصابات النهب والمجرمين الطريق، وتم تجريدهم من كل شيء وقاموا “بقلع” المفاتيح من سائق الحافلة. “حاول أحدهم أن يقود الحافلة بنفسه لكنه فشل” كما تروي إحسان، ولحظتها كان الجميع يتحصن بقراءة آية (الكرسي) ويدعون الله في صمت أن ينجيهم بعد أن أوقف الدعامة الرجال على الحائط ووجهوا نحوهم الأسلحة استعدادًا لتصفيتهم، ثم طلبوا من النساء تسليمهم الذهب والمال وكل ما يحملن من مقتنيات.
أما خالد حسن عبد القادر، (ضمن النازحين الناجين) وهو كادر طبي بمركز الإيواء، قال لـ”أفق جديد”، إن “سيطرة المتمردين على الوضع مكنتهم من استغلال المواطنين أسوأ استغلال؛ فقد غادروا جزيرة (توتي) إلى منطقة (أم ضوا بان) بعزبة دفار بمبلغ 5 مليون جنيه؛ وهناك من دفع مبلغ أكثر من المبلغ المتفق عليه.”
وأضاف، “خروج المواطنين تم على مراحل عديدة ولم يكن أمام الأسر أي خيارات؛ وعدم الأمان كان سببا للخروج إذ أنهم تعرضوا للذل والإهانة وكان الدعامة يقيدون بعض شباب ورجال المنطقة على الأبواب ويقومون بضربهم تحت تهديد السلاح .”
نقطة الوصول
يقول رئيس لجنة إيواء أهالي توتي بمدينة أم درمان، داؤود الرشيد أحمد المدني، “بعد حدوث المشاكل الأخيرة تكونت عدة لجان؛ لجنة لترحيل المواطنين بدعم من أبناء المنطقة المغتربين؛ فلم يكن يتوفر لأغلب السكان المبالغ الكبيرة التي يطلبها المتمردين كفدية؛ ولجنة أخرى لاستقبالهم في أم درمان الثورة.”
وأوضح المدني في حديثه لـ”أفق جديد”، أن “خط الرحلة يبدأ من توتي إلى مدينة أم ضوا بان، ثم شندي وصولا لمدينة أم درمان.”
وأضاف؛ “بلغ عدد النازحين الذين يقيمون حاليًا في الثورة 581 أسرة؛ منهم عدد 580 أسرة وضع بعضها ميسر قامت باستئجار منازل والبعض الآخر تمت استضافته من قبل أهاليهم؛ فيما تم توزيع باقي الأسر على ثلاثة مراكز إيواء؛ وهي مركز إيواء مهاجر في الثورة الحارة 13 ضم 32 أسرة بواقع 130 شخصًا؛ ومركز إيواء المنهل في الثورة الحارة الثالثة ويضم 175 أسرة بعدد 751 شخصًا؛ ومركز إيواء بيت المال فيه 64 أسرة بواقع 150 شخصا”.
وأشار إلى أن العدد الذي غادر جزيرة “توتي” أكبر من المذكور غير أن بعضهم فضل البقاء في شندي وآخرون سافر إلى بورتسودان وعطبرة والبعض الآخر الي مصر. وتابع: “بلغت تكلفة ترحيل الأسر حتى الأسبوع الماضي 40 مليون جنيه سوداني؛ المليشيا كانت تطلب من المواطنين مبالغ ضخمة جدًا حتى يسمح لهم بالخروج من توتي؛ عبر عربة تدفع مقابلها الأسرة الواحدة ما بين 4 – 6 مليون جنيه سوداني؛ فبعد مفارقة الأسر مناطق الدعامة والدخول إلى مناطق الجيش تتولى اللجنة ترحيلهم باستئجار حافلات من (أم ضوا بان) إلى شندي التي يوجد فيها مركز استقبال للتواصل مع اللجنة بعد الاطلاع على الكشف المرفق بأسماء الوافدين؛ عليه يتم استقبالهم وتبدأ إجراءات الحصر والتسجيل”. وأردف: “يوجد تقسيم إداري في كل مركز إيواء يشمل وحدة تسجيل وحصر النازحين منذ وصولهم؛ وعدد أفراد الأسرة والأمراض المستعصية والإصابات الأخرى؛ وتتولى الوحدة الصحية الإشراف على المواطنين لأن أغلبهم يعاني مشاكل نفسية وصحية وإصابات بسيطة متفاوتة؛ جراء حرمانهم من العلاج في توتي؛ كما يوجد في كل مركز مخزن للمواد التموينية وتوجد وحدة أخرى تختص بالتكايا وإعداد الطعام للوافدين الذين اتسموا بالنظام التام؛ فكل وحدة لديها ممثل من المركز المعنى إضافة إلى ذلك توجد لجنة إدارية تتفرع منها اللجان التي تدير العمل بإشراف مشرف عام؛ وأيضًا توجد لجنة مالية؛ وكل مركز لديه مشرف خارجي وآخر داخلي؛ للرجال والنساء كل على جدًا”.
أما بخصوص الوافدين الذين يعانون أوضاع صحية صعبة تتولى اللجنة أمرهم بالموارد الذاتية والمتابعة في المستشفيات العامة؛ لافتًا إلى أن مركز (المنهل) هو الرئيسي الذي يستقبل سكان توتي؛ ويشهد حاليًا ازدحامًا بشكل كبير والتخفيف عليه قامت اللجنة مؤخرا بإنشاء مركز مازال العمل جاري فيه لاستيعاب الوافدين ولضمان راحتهم وتوفير الأسرة لكل منهم؛ نظرًا أن هناك أسر ما زالت تجلس في السطوح وفي العراء وبعض الرجال ينامون في الشارع.”
وأضاف؛ “تتابع اللجنة مع السلطات المحلية معالجة الوضع؛ وتحسنت الخدمات التي تقدم للأسر والمتمثلة في الوجبات وهي تبدأ بشاى الصباح مع وجبتي الفطور والغذاء؛ تم توفيرها بفضل المغتربين والمنظمات وحكومة الولاية”، مؤكدا أن “الوضع في طريقه إلى الاستقرار وهناك محاولة لمعالجة مشكلة الازدحام بشكل نهائي بالتعاون مع المحلية والمغتربين”.
وشكا المدني من مشكلة الصرف الصحي التي يعاني منها الأسر في مركز (المنهل)، وناشد السلطات الإسراع لمعالجتها؛ وأشاد بالدور الكبير الذي قدمه المغتربين في قضية أهاليهم المكلومين في توتي؛ موضحًا أن التكايا التي كانت تعمل أثناء الحرب في تلك المنطقة قامت بدعم من المغتربين فيما أكملت المنظمات بعض النواقص.