الامتناع عن التنمّر السياسي كمدخل للوحدة الوطنية

‎ عادل حسون

عادل حسون

adilhassoun@hotmail.com

 

ظلّت الحكومات العسكرية التي حكمت السودان خلال السبعة عقود منذ الاستقلال عن الحكم الثنائي البريطاني- المصري تستخدم مفهوم (الوحدة الوطنية) للتكسّب السياسي منه وبدون جديّة تُدمج الشعب والمجتمع خلف مشروع وطني متوافق عليه وبصفتها غاية سامية تنهي أزمات الحروب الأهلية والانقسام الاجتماعي والتخلف التنموي الناتجة عن الصراع السياسي حول هويّة الوطن، دستور الدولة، نظام الحكم واتباع النهج الديمقراطي الذي يرد النزاع إلى أهله عبر آلية الانتخابات الحضارية بدلاً عن للإنقلابات العسكرية وتفجير الحروب العبثية فتمزيق وحدة البلاد السياسية والجغرافية. حدث هذا مع أقاليم جنوب السودان- سابقا- ومن ثم مناطق جبال النوبة والنيل الأزرق وشرق السودان ودارفور على التوالي. ثم تفجّر أخيرا في غالبية أرجاء القطر بداية من العاصمة الخرطوم على أثر حرب الخامس عشر من أبريل الطاحنة غير المسبوقة في فظاعاتها وتدميرها.

 

عرفت البلاد نماذجاً من ذلك التلاعب في عشر سنوات سلام اتفاق أديس أبابا ١٩٧٢ برفع النظام لشعار الوحدة الوطنية بين الشمال والجنوب والذي انتهى إلى حرب تالية كانت الأكثر انتشاراً وتدميراً من الحرب التي أوقفتها. في ست سنوات المرحلة الانتقالية بعد اتفاقية نيروبي ٢٠٠٥ مع الجنوب، علا أيضا مسمى الوحدة الوطنية على حكومة الشراكة الثنائية بين حزب المؤتمر الوطني -وقتها- والحركة الشعبية الجنوبية، لكن الشعار ما لبث وأن قُذف به إلى سلة مهملات التاريخ حين توجه الناخب الجنوبي واختار الانفصال عن الدولة الوطنية لفراغ ذلك الشعار من أي مضمون حقيقي بسبب وحيد لا ثاني له هو: عدم جدية الحكومة التي انبرت ورفعته. عدم الجدية يعني عدم القناعة بالشعار نفسه في المقام الأول. عدم القناعة نفسها تنُسب إلى “جهل” السياسيين أولئك من عسكر ومدنيين في المثال الأول تحت نظام مايو، وعسكر- مدنيين في نموذج المؤتمر الوطني المحلول- كحزب مسلّح كما يظهر- بمترتبات إفراغ الشعار من مضمونه وضرره على الوطن. عودة الحرب الأكثر ضراوة من سابقتها بداية من ١٩٨٣ وإنقسام السودان إلى دولتين أخيرا في ٢٠١١. من سمات ذلك الجهل الاستقواء بالقوة المسلحة للدولة من قبل الحزب الحاكم على رصفائه في الساحة وما يتبع ذلك من جرائم سياسية تغلّف عادةً بالإجراءات القانونية، وأيضا التنمّر اللفظي من الحاكمين على خصومهم لا سيما في مثال نظام يونيو البائد.

 

لا يزال هناك من يسعى لرفع شعار الوحدة الوطنية دون الحذر من تكرار ذات الخطأ، عدم القناعة والجهل بمضمون الشعار، وبما يرجح فعلا استمرار نهج التلاعب به دونما أدنى جديّة سوى لاستخدامه في التكسّب السياسي غير المشروع. برز من هؤلاء أخيرا السيد مالك عقار نائب رئيس (مجلس السيادة) المكوّن بعد إنقلاب أكتوبر ٢٠٢١م. ففي خطبته المتلفزة مؤخرا بمناسبة ذكرى استقلال السودان في الأول من يناير ١٩٥٦ طرح عقار مفهوماً للوحدة الوطنية التي تلي انتهاء الحرب بعد الانتصار النهائي الموعود من الجيش السوداني على مليشيا الدعم السريع. ووعّد عقار في خطابه المطّول الذي تناول فيه كافة الشئون العامة من السياسة إلى الاقتصاد والمجتمع والرياضة..الخ بتفعيل (مجلس شئون الأحزاب) لترشيد الحياة السياسية بعد انتهاء الحرب ومن أمثلة ذلك: وضع حد للتكاثر الأميبي للأحزاب التي تخطى عددها المائة حزب، حركة سياسية- فصيل مسلح يتبنى شعارات سياسية. مجلس الأحزاب الذي يعّد إحدى المؤسسات التي صنعها الدستور المنبثق عن اتفاقية السلام ٢٠٠٥ ظّل دوره معطلاً على مدى السنوات العشرين الماضية بسبب عدم الجدية مثله ومؤسسات أخرى بقيت غير مفعلة كمفوضية المصالحة الوطنية ومجلس اللغات السودانية. ذلك المجلس الذي ينتخب البرلمان ثلثي أعضائه كان من المأمول تطوير ممارسته إلى مؤسسة دائمة لتنقية المناخ السياسي تدمج الأحزاب المتشابهة في المسميات والبرامج وتحّل الأحزاب المسلّحة أو ذات المبادئ والشعارات العنصرية والدينية المقسمّة للمجتمع، وأيضا إنهاء حالة التنمّر اللفظي بين السياسيين وبعضهم البعض.

 

فليس من اللائق أن يدعو أحد السياسيين، الآخرين من خصومه “للحس كوعهم” حتى يصلوا إلى السلطة كما دعا د. نافع علي نافع مساعد الرئيس في مخاطبة شهيرة له. أو أن يدعوا رأس النظام نفسه معارضيه “إن كانوا رجالاً” لحمل السلاح لمواجهته في الميدان وانتزاع السلطة كما سبق وأخذها هو بالسلاح عنوّة في قول ذائع للرئيس السابق البشير في خطابه ببورتسودان ١٩٩٩ بمناسبة تصدير أولى شحنات النفط السوداني، أو في إطلاق البشير العام ٢٠١٠ وصف “الحشرة الشعبية” على شريك حزبه في الحكم “الحركة الشعبية”. السيد عقار الذي تلبّس الحكمة في خطبته المشار إليها عاد في خطابه اللاحق أمام تجمع للمواطنين وصفه الإعلام الرسمي في بورتسودان “مسيرات عفوية للجماهير” رفضا للقرارات الأمريكية ضد القائد العام للجيش، فمارس عنفاً لفظياً ضد (تنسيقية القوى الديمقراطية والمدنية- تقدم) عندما نعتها بأوصاف “العمالة والخيانة” جرياً على الخطاب المتشنّج من بورتسودان بما في ذلك ‘البرهان’ نفسه الذي وعّد في مخاطبته الحشود “العفوية” التي تجمعت لاستقباله في مطار المدينة عقب عودته من جولة خارجية له في غرب إفريقيا قبل أسبوعين- ببناء السودان ليس كبناء (القحاطة) كما قال في إشارة لا تخلو من عنف لفظي في التوصيف إلى ما أشتهر عن (تحالف قوى الحرية والتغيير- تقدم) ودولة الرئيس عبد الله حمدوك الشعار الثوري الملهّم (حنبنيهو) إبّان عامي الحكومة المدنية لثورة ديسمبر ٢٠١٨ المنقلب عليها من قائد الجيش وحلفائه من الحركات المسلحة وبدعم من المؤتمر الوطني المنحل.

 

تهديدات قطع الرؤوس وعدم السماح بعودة المعارضين إلى البلاد والملاحقات لبعضهم بالإجراءات القضائية ذات الصبغة السياسية المعهودة تصنّف كأفعال تنمّر تخرج من بورتسودان ومناصريها، وتعّد من إفرازات الحرب ومواصلة في الاستقواء بجهاز الدولة من قبل الحاكمين ضد المعارضين تماما مثل نهج الإسلاميين ونظام الإنقاذ في سنوات التسعينيات، فلا جديد. التنابز بالألقاب وسخرية قوم من آخرين ثم التنمّر اللفظي المحض في خطاب من يعّد ببناء الدولة ومن يمنّي الآخرين بحياة سياسية رشيدة تلي انتصار الجيش في الحرب، غير مشجعة لبناء الدولة، وبالتأكيد لن تحقق الوحدة الوطنية والحياة السياسية المعافاة. بغض النظر عمن سينتصر في حرب العسكريين فيما بينهم بما في ذلك الحركات المسلحة، يبقى الرهان على مدى تعلّم السياسيين لا سيما الحاكمين من ماضي البلاد وتجاربها القاسية طيلة السبعين عاما الماضية، إذا كان الهدف السامي لا يزال مطروحاً (الوحدة الوطنية). أول ذلك هو الامتناع عن العنف اللفظي الذي يعمّق الانقسام وشحن الأنفس بالغضب المتبادل. في حقيقة الأمر قد يكون من المفيد ضمن إصلاح مجلس شئون الأحزاب فرض غرامة مالية على الحزب المعيّن إذا مارس أحد سياسييه عنفاً لفظياً ضد الآخر من الأحزاب. سنضمن منه عدم إلقاء الواحد من هؤلاء الشتائم والإهانة اللفظية على الملأ دون عقاب، تمتين عرى الوئام بين الأحزاب المتنافسة بما يقوي الوحدة الوطنية بالبلاد، وبالتأكيد نكسب تغذية مستمرة لمالية الدولة وتنميتها من مورد الغرامة المربح هذا بعد وقف الحرب لاستمرار توتراتها التفسية المتوقع في الفترة الأولى لتوقفها وإلى أن يتعلم السياسيين احترام بعضهم البعض.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى