مشروع الجزيرة في مئويته الأولى.. طلقة أخيرة على جثة هامدة
وسيلة حسين
لم يُخرّب السودانيون شيئا بأيديهم مثلما فعلوا بمشروع الجزيرة، الذي ورثوه عن الحقبة الاستعمارية، يعمل مثل ساعة سويسرية، كما دُرج على وصف دقة عمليات تشغيله وانتظام سيرورة الحياة اليومية في أقسامه ومكاتبه وقاطراته ومحالجه وترعه وحواشاته التي تشبه بساطا سحريا أخاذا، يمتد في مساحة هائلة تبلغ حوالي (2,200,000 فدان) كأبر مشروع ري انسيابي تحت إدارة واحدة ويضم 18 قسما.
نهب ما تبقى من الجُثة
في العام 1925، بدأت المياه تتدفق في الترع والكنارات والجداول، منسابة من خزان سنار الذي أنشأ خصيصا لري الأراضي الممتدة عبر محافظات الجزيرة والنيل الأبيض وسنار بطول 300 كيلو متر، ليصبح أعرق مشروع في السودان وأكبر مزرعة مروية في العالم، ينهض على صغار الزراع الذين يقدر عددهم اليوم بنحو 140 ألف مزارع من الذكور والإناث، ومن عمال المؤسسات الخدمية، يبدل واقعهم المعيشي والحياتي كليا من نمط الزراعة التقليدية الموروثة، لأفق الزراعة الحداثوية، وفق أسس علمية وهندسية ويديرون حيازات “حواشات” تتراوح في مساحتها بين أربعين فداناً وخمسة عشر فدانا، تربض إدارته في بركات بمدينة ود مدني ويتحمل المشروع نحو 65% من ميزانية البلاد. وفي العام 2025، بعد قرن كامل، انهار المشروع كليا وصار ساحة للنهب والموت والدمار، وغرق في شلالات من الدم والفوضى وبات ميدانا للمعارك والقصف المدفعي والطائرات وأعمدة الدخان، وتحول المزارعون لنازحين في دور الإيواء، ينتظرون المساعدات الغذائية، تأتي أو لا تأتي.
“لم يكن مشروعا زراعيا وحسب، كان حياة نابضة كاملة”. يقول محمد زين من قرية ود سلفاب في حديث مع “أفق جديد” ومن ثم يضيف: “الآن يرقد جثة هامدة بعد أن نهب الجنجويد كل شيء فيه، دمروا مخازنه وبُناه وشردوا ونكلوا بأهله وقتلوهم”.
تأثر نحو 90% من العمال الزراعيين والمزارعين في المشروع، البالغ عددهم أكثر من 5 ملايين فرد، وطال الخراب والتدمير أنظمة الري وأكثر من 34 مخزنا، ونُهبت الأجهزة الإلكترونية وعدد كبير من السيارات والجرارات في مكاتب رئاسة المشروع في بركات. علاوة على تدمير البنية التحتية ونهب كميات كبيرة من البذور والأسمدة من بنك الموارد الجينية ومعظم الآليات الزراعية، وشُرد المفتشون الزراعيون ومفتشو الري ونُهبت عرباتهم، وهم الذين يقومون بالدور الإرشادي والتوعوي ومتابعة المحصول، وامتد الخراب للمدن التي لفها الصمت والظلام واصبحت قرى المشروع جزرا معزولة عن بعضها البعض.
بلغت نسبة انخفاض الأداء 72% لأول مرة منذ قرن كامل، وانهارت 85% من بنية شبكة الري بالمشروع. وقال تحالف مزارعي الجزيرة والمناقل في اغسطس 2024 إن الزراعة في أقسام المناقل الثمانية، التي تبلغ مساحتها الكلية مليون فدان، لم تتجاوز 22% مقارنة بالموسم السابق. “المساحة المزروعة حالياً بلغت 27,652 فداناً بمحاصيل القطن والذرة والفول السوداني والخضروات، بينما كانت المساحة المزروعة في الموسم السابق 123,699 فدانا”.
وأشار التحالف في بيان أن نسبة الزراعة في قسم المسلمية بلغت 6%، حيث تم زراعة 3,500 فدان بمحاصيل القطن والذرة والفول السوداني والخضروات، بينما كانت المساحة المزروعة في الموسم السابق 55,900 فدان. وتبلغ مساحة قسم المسلمية 134 ألف فدان، ويعمل فيه 11 ألف مزارع.
تسيطر قوات الدعم السريع على معظم أقسام المشروع، بما في ذلك قسم المسلمية، بينما تخضع أقسام المناقل لسيطرة الجيش.
“الأوضاع مريعة، القرى والمدن تحولت لبنايات مهجورة تسكنها الأشباح” يقول مبارك علي، من قرية ود بهاي في حديث مع “أفق جديد” ومن ثم يضيف: “ما تبقى من حياة مهددٌ في أية لحظة”.
ووصف تحالف مزارعي الجزيرة والمناقل في بيان، الأوضاع في المشروع بالبائسة وأن الحياة توقفت تماما جراء الانتهاكات الممنهجة وفقدان السكان لممتلكاتهم، مما أجبرهم على النزوح ولم يتبق سوى الفقراء من المزارعين والعمال الزراعيين. “تعطلت إدارات الأقسام والتفاتيش وعمليات الري على طول القنوات الرئيسية والفرعية، وأصبحت الترعة الرئيسية في سنار منطقة عمليات عسكرية”.
وتراجعت المساحات المزروعة في المشروع، بحسب محافظ مشروع الجزيرة، إبراهيم مصطفى، إلى 505 آلاف فدان من إجمالي 1.1 مليون فدان. متهما قوات الدعم السريع بتدمير البنية التحتية لمشروع الجزيرة، بما في ذلك منظومة الري على مستوى القناطر الرئيسية وقنوات الري والورش والمحالج ووحدات إعداد التقاوي.
ثأر قديم ونكران وطني متجدد
“قاوم المشروع حقبا متصلة من الاهمال والتردي والنكران طوال فترات الحكم الوطني” يقول أنور مساعد من قرية الخوالدة في حديث مع “أفق جديد” ومن ثم يضيف: “يبدو أن التخريب الذي حصل للمشروع في حقبة الانقاذ، كان ممنهجا”.
بدت البُنى والهياكل الفوقية للمشروع في التآكل منذ صعود نظام الإنقاذ للسلطة في البلاد، واعتمادها سياسات التحرير الاقتصادي وبيع الأصول والممتلكات العامة، وحالة العزلة والابتعاد عن الأسرة الدولية التي أحكمت حصارا اقتصاديا على البلاد، وبداية مراحل الاستنزاف الاقتصادي ومحدودية الموارد المالية وغياب تمويل الاحتياجات الضرورية وتخلي وزارة المالية عن تمويل المشروعات والمؤسسات إلي السياسات الفردية للإدارات المختلفة في التصرف ببيع جزئي للبنيات الأساسية للتشغيل والتسيير وتشريد العاملين، وأورد تقرير حكومي (2009) أن إحصائية العاملين قبل الإنقاذ شكلت حوالي 13500 وعند منتصف التسعينات بلغ العدد حوالي 8600 ليصل العدد إلي 3500 تمت تسوية حقوقهم لأجل تنفيذ دراسة تركية ترى أن المشروع يحتاج فقط إلي 328 عامل، جرى تعيينهم من الموالين للهيئات النقابية والتي تدير ما تبقى من المشروع تحت اسم شركة “أرض المحنة”، فتقلصت 75% من مساحة الأرض التي تنتج محاصيل الصادر النقدية وتوفر المواد الخام للإنتاج الصناعي وتقديم الخدمات من صحة وتعليم وتوفير فرص العمل، إلي أقل من الثلث، وتراجعت محاصيل الصادر الرئيسية كالقطن، وأصبح مشروع الجزيرة يشارك القطاع التقليدي المطري في إنتاج محاصيله وبإنتاجية متدنية، ما يناقض الهدف الرئيس الذي نهض لأجله المشروع.
وعمليا، ذهب مشروع الجزيرة نحو نهاياته المتسارعة منذ صدور وانفاذ قانون مشروع الجزيرة لعام 2005، الذي تمت صياغته وإجازته علي عجل دون أن يجد حظه من النقاش والتداول وتفسير بعض موجهاته في ما يتعلق بنظام حرية المزارع في اختيار المحصول واغفال الكيفية والمدى الزمني الذي تتم خلاله محاسبة مجلس الإدارة التي انتهي في عهدها بيع القطاع الخدمي بالمشروع، بما في ذلك آليات الهندسة الزراعية وهيئة الري والحفريات والسكة الحديد والمحالج، في صفقات فساد ظاهرة، وتمليك العاملين للمنازل، دون فائدة. ولم يتبق بالمشروع سوي الأرض والمزارع وقنوات ري مدمرة تماما. ويقدر حجم الفساد والأضرار التي لحقت بالمشروع خلال الفترة من 1990 وحتى نهاية 2018 بأكثر من 100 مليار دولار.
في العام 2008 وصلت مديونيات المشروع إلى ما يفوق 317 مليون جنيه.
وتتألف البنية التحتية للمشروع التي طالها الفساد من مكاتب ومنازل وغيرها من (155) منزلا متوسط الحجم، (76) سرايا، وعمارتين ببورتسودان و(200) مكتب، (414) مخزنا كبيرا، (48) ورشة، (78) مرفقا من مدارس ومراكز صحية وخدمية، و(53) فلترا لتنقية المياه، وفقدت الهندسة الزراعية (87) جرارا مجنزرا وأكثر من (40) حاصدة و(264) جرارا صغيرا و(39) جرارا كبيرا و(55) هرو دسك (40 صاجة).
وشمل الخراب خطوط السكة الحديد التي كانت تجري قاطراتها في أكثر من 1200 كلم، لتغطي كل الجزيرة والمناقل بطاقة (34) قاطرة و( 1100) عربة ترحيل، (11) موتر ترولي، (3) موتر قريدر رافعتين، وتضم أكثر من 650 كبري وتبلغ قيمة البنيات الأساسية للسكة الحديد التي بيعت كخردة، ما يقارب الـ200 مليون دولار.
“في مئويته الأولى، تقهقر مشروع الجزيرة إلى مجرد (بِلدات) تسقيها الدماء”. يقول فتح الرحمن العوض من قرية الشُكابة في حديث مع “أفق جديد” ومن ثم يضيف: “نزح الناس هربا من القتل على عربات تجرها الدواب”