“البراءون”.. الوجه الداعشي في حرب السودان

 محمد الهادي

غصّت وسائل التواصل الاجتماعي مؤخرًا بمقاطع فيديو تصور عمليات قتل مروعة تُنفَّذ بدم بارد، وسط علو التكبيرات والتهليلات من قبل منفذيها، وهذه المشاهد انعكاس واضح لتفشي العنف، وتكشف عن ثقافة إجرامية توظف الدين لتبرير القتل خارج القانون، حيث تتحول التصفيات الجسدية إلى مشاهد استعراضية لبث الرعب وترسيخ ثقافة الإقصاء، وفي ظل حرب الميليشيات التي تعصف بالسودان، أصبح القتل خارج إطار القضاء أداة رئيسية لتصفية الخصوم، دون اعتبار لأي قوانين أو أعراف إنسانية، وهو مؤشر واضح على انحراف أيديولوجي عميق يهدد بنية الدولة والمجتمع، ويؤسس لمرحلة أكثر دموية في تاريخ السودان، حيث تصبح القوة والعنف اللغة الوحيدة السائدة.

أصبحت تلك المشاهد للقتل الوحشي خارج القانون سلوكاً ممنهجاً تمارسه قوات ترتدي عباءة “المقاومة الإسلامية”، وهي في الحقيقة لا تختلف عن الجماعات الإرهابية التي خاضت حروباً وحشية في العراق وسوريا، ومن بين هذه التشكيلات التي برزت في الميدان خلال حرب الخامس عشر من أبريل، كانت “كتائب البراء بن مالك” وهي الأبرز ضمن مجموعة من المجموعات العسكرية التابعة للحركة الإسلامية (البرق الخاطف، الطيارين، جنود الحق، الشُهب الحارقة، أنصار الله، المنتصر بالله، خالد بن الوليد، القعقاع، الكرّارين، الأهوال) وهي ميليشيا تحارب إلى جانب الجيش السوداني وترتكب جرائم ترقى إلى جرائم الحرب، وتمارس القتل بأبشع الطرق كـ(بقر البطون، الذبح، وتهشيم الرؤوس) مستحضرة في ذلك أساليب تنظيم داعش في أقسى صوره.

تُعدّ “كتيبة البراء بن مالك” إحدى أبرز الميليشيات الإسلامية في السودان، وترتبط بتنظيم الإخوان المسلمين، وتأسست خلال حرب الجنوب، وتضم شبابًا تتراوح أعمارهم بين 20 و35 عامًا، معظمهم من خلفيات طلابية مرتبطة بالأمن الطلابي والاتحاد العام للطلاب السودانيين، ومنذ اندلاع الصراع الحالي، تقاتل الكتيبة إلى جانب الجيش السوداني، وتتمركز في مواقع استراتيجية مثل سلاح المدرعات جنوب الخرطوم، وقد قام قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، بزيارة قائد الكتيبة في مستشفى الشرطة بمدينة عطبرة بعد إصابته في إحدى المعارك، مما يشير إلى علاقة الأجسام العسكرية للإسلاميين بالجيش، وأهمية دورها في النزاع، وتُتهم الكتيبة بارتكاب جرائم حرب، ويُلاحظ رفضها المستمر للجهود المحلية والدولية الرامية لوقف الحرب.

خلال النزاع المستمر في السودان، تكررت حوادث الإعدامات الميدانية التي نُفِّذت بوحشية مفرطة، في أكتوبر 2024، وقد أفادت تقارير بإعدام عشرات الشباب في منطقة الحلفايا شمالي الخرطوم بحري، على يد الجيش السوداني وكتائب البراء بن مالك المتحالفة معه، بتهمة التعاون مع قوات الدعم السريع، وهذه الأحداث دفعت خبير الأمم المتحدة المعني بحالة حقوق الإنسان في السودان، رضوان نويصر، للمطالبة بإجراء تحقيق مستقل في هذه الانتهاكات، وفي نوفمبر 2024، بعد سيطرة الجيش السوداني على مدينة سنجة، أفادت تقارير بوقوع إعدامات ميدانية بحق مدنيين، بتهمة التعاون مع قوات الدعم السريع، في يناير 2025، شهدت مدينة ود مدني إعدامات ميدانية، حيث أشارت أصابع الاتهام نحو الجيش السوداني والفصائل المتحالفة معه، مع ورود أنباء عن مقتل 17 شخصًا في هجمات وُصفت بالوحشية والانتقامية.

ظهرت “كتائب البراء بن مالك” في سياق الحرب المستمرة بالسودان منذ أبريل 2023، وسط تنامي نفوذ التيارات الإسلامية الراديكالية داخل الجيش السوداني، وتضم مقاتلين إسلاميين متشددين، بعضهم من عناصر الأمن الشعبي السابقين وكتائب الظل التابعة لنظام البشير، إلى جانب مقاتلين شبان جرى تجنيدهم عبر خطاب ديني متطرف خلال الحرب. التسمية مستوحاة من الصحابي البراء بن مالك، الذي اشتهر بمقولاته التي تحض على الشجاعة والانتحارية في القتال، وهي رمزية تتماهى مع فكر الجماعات الجهادية التي تمجد العمليات الفدائية والاستشهادية، وتعتمد الكتائب على تكتيكات مشابهة لتلك التي استخدمتها من قبل التنظيمات الجهادية مثل داعش والقاعدة، وعلى رأسها القتل الوحشي الذي يشمل الإعدامات الميدانية وقطع الرؤوس، والتعبئة الدينية التي تصور القتال ضد الخصوم كواجب شرعي، واستهداف كل من يخالفهم الرأي بالقتل بطرق وحشية، وهذا يعكس بعداً تكفيرياً وعنصرياً في عملياتها، وتعمل تلك المجموعات خارج إطار القانون دون تبعية عسكرية واضحة، ويمنحها ذلك استقلالية خطيرة تجعلها تتحرك بحرية كبيرة دون أي رقابة، وبينما تشترك مع داعش في استخدام الدين كأداة لتبرير العنف، فإنها أيضاً تتبنى نفس الوحشية في التنفيذ، من ذبح وبقر بطون، وتجنيد الشباب بخطاب جهادي، إلى جانب استهداف المخالفين دينياً وإثنياً، مع الاحتفاظ بقدر من الاستقلالية عن القيادة العسكرية التقليدية، ومع أن الجيش السوداني يوظفها كقوة قتالية ضمن تحالفه مع التيار الإسلامي، فهذه الجماعة تمثل خطراً مستقبلياً قد تتحول لاحقاً إلى قوة خارجة عن السيطرة، مما يهدد السودان والمنطقة بمزيد من العنف والتطرف.

لعبت الحركة الإسلامية في السودان منذ صعودها إلى السلطة دوراً محورياً في عسكرة المجال السياسي، معتمدة على اختراق المؤسسة العسكرية من جانب وتأسيس تشكيلات قتالية موازية من جانب آخر، وهذه المجموعات بالإضافة لكونها أدوات عسكرية، فهي تحمل بعداً أيديولوجيًا عميقاً، وتستند إلى خطاب ديني متطرف يُشرعن العنف باسم “الجهاد”، وفي هذا السياق، فقد لعب القيادي الإسلامي علي كرتي دوراً رئيسياً في تأسيس الجناح العسكري للحركة الإسلامية في السودان، ومتحكماً فعلياً في الكتائب الجهادية، وعلى رأسها “كتائب البراء بن مالك”، التي باتت تمثل الوجه الأكثر راديكالية في حرب السودان، وتتبنى هذه الكتائب أساليب تشبه بدرجة كبيرة نهج الجماعات الداعشية، من إعدامات ميدانية إلى تكتيكات الحرب غير النظامية، وهذا يكشف طبيعة الحركة الإسلامية السلطوية، التي لا ترى السلطة إلا عبر فوهة البندقية، وهذا التوجه لا يجوز النظر إليه كاستراتيجية مرحلية، لأنه يمثل جوهر عقيدة الحركة التي تتغذى على العنف وتعيد إنتاجه في كل منعطف تاريخي.

السؤال الأكثر إلحاحاً الآن هو كيف يسمح الجيش السوداني بوجود مثل هذه الجماعات ضمن قواته؟ الإجابة تكمن في طبيعة الجيش نفسه، وطريقته في صناعة المليشيات للقيام بمهامه الوظيفية، ليتفرغ الجيش للعب أدوار سياسية واقتصادية، بالإضافة إلى التحالف المقدس بين المؤسسة العسكرية والقوى الإسلامية المتطرفة، فمنذ اندلاع الحرب، وجدت الحركة الإسلامية فرصة ذهبية للعودة إلى المشهد، مستفيدة من حاجة الجيش لأي قوة قتالية إضافية، وبما أن هذه الكتائب ترفع شعار “الجهاد”، فإن صناع القرار العسكري، سواء عن قناعة أو تحت ضغط الضرورة، غضوا الطرف عن فظائعها، ما دامت تحقق لهم مكاسب ميدانية كما كان يحدث سابقا في دارفور عندما كانت مليشيات الجنجويد مرضياً عنها وتقاتل لصالح الإسلاميين وجيشهم.

إن وجود الجماعات العقائدية المتشددة، ككتائب البراء بن مالك، والسماح لها بالعمل كقوات قتالية رسمية يحمل في طياته خطورة كبيرة على مستقبل السودان كدولة، فالتاريخ يعلمنا أن الجماعات الجهادية لا تتوقف عند القتال ضد “العدو المشترك”، بل تتحول لاحقًا إلى وحش يصعب السيطرة عليه، وتجربة أفغانستان مع “طالبان” وتنظيم القاعدة مثال واضح، حيث انتهت القوات الجهادية التي دعمتها الدولة إلى الاستيلاء على السلطة نفسها.

المجتمع الدولي، المنظمات الحقوقية، وحتى القوى السياسية السودانية، جميعها مطالبة بفتح هذا الملف وعدم التعامل معه كظاهرة هامشية، فما يحدث اليوم قد يكون شرارة حرب جديدة أكثر تطرفاً وعنفاً، وحينها سيكون من الصعب إطفاء النيران التي أشعلها صمت اليوم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى