بلا لثام .. داعش في السودان
أفق جديد
ظل السودان بمنزلة المعبر ومركز الدعم اللوجستي لعدد من الجماعات الإرهابية النشيطة في شمال وشرق إفريقيا وفي منطقة القرن الإفريقي، وأحيانًا شبه الجزيرة العربية. وهو أيضًا يمثل همزة الوصل بين الجماعات النشيطة في شرق ووسط إفريقيا، خاصة في الصومال والكونغو الديمقراطية، وإخواتها في الساحل وغرب إفريقيا، لكن المواجهة الدائرة حاليًا بين قطبي المكون العسكري في البلاد منذ الخامس عشر من شهر أبريل 2023 م جعلت العديد من مراكز البحث والرصد المهتمة بحركة الجامعات الإرهابية في العالم تعيد تقييمها للبلاد وتغيير تصنيفه من “مركز لوجستي” إلى منطقة نشاط عملياتي “بؤرة نشاط” جديدة في أفريقيا لشبكتي القاعدة أو داعش أو كلتيهما معاً، ومع استمرار الصراع واقترابه من الدخول إلى عامه الثاني بدأ المتشددون في الظهور إلى سطح مسرح الحرب، رويدًا رويدًا، مما دفع عدد من أجهزة الاستخبارات الإقليمية والعالمية إلى إرسال تحذيرات مباشرة إلى حكومة بورتسودان ولفت نظرها بضرورة محاصرة هذه التنظيمات الإرهابية.
وتشير مضابط لجنة التفكيك بحسب مطلعين عليها أن أعوام 2020 و2021 شهدت محاصرة كبيرة لشبكات الخلايا الإرهابية في السودان وتجفيف مصادر أموالها من خلال المصادرات التي تمت لعدد من الشركات والاستثمارات التي ثبت أنها على صلة مباشرة بتنظيمات إرهابية محظورة دوليًا، وشهدت تلك الفترة عددًا من العمليات العسكرية ضد خلايا كانت تتخذ من السودان مستقرًا مؤقتًا لها، ووفقًا لقيادي بلجنة تفكيك تمكين نظام الثلاثين من يونيو أن كل تلك الخلايا كانت من “مخلَّفات” مرحلة حكم “الإنقاذ”، التي استمرت نحو ثلاثين عامًا، وتركت وراءها بنية تحتية للتطرف داخل السودان، وشبكات محلية معقدة ذات صلات قوية مع العديد من التنظيمات الإرهابية في الإقليم.
ويعضد تقرير الخارجية الأمريكية للإرهاب لعام 2021 ما ذهب إليه القيادي في لجنة التفكيك، حيث أشار إلى أن العديد من التنظيمات الإرهابية مثل: “القاعدة” و”حركة سواعد مصر” المعروفة باسم “حسم” تتخذ من السودان ساحة للتموضع، وبناء القدرات، وتنظيم الصفوف، وبالرصد والمتابعة لتلك الفترة نجد أن إحدى المجموعات الإرهابية أعلنت بمدينة القضارف، في فبراير 2021، تدشين “إمارة إسلامية”، مؤكدةً أنها تعمل على “إنشاء إمارة جديدة بقيادة زعيم واحد لكل دول العالم الإسلامي”.
تنوع إرهابي
ويشير عدد الخلايا الإرهابية، التي نجحت السلطات السودانية في الكشف عنها في عام 2021، إلى بنية تحتية للإرهاب تحظى بتنوع واضح هناك؛ حيث تم ضبط أربع خلايا إرهابية تابعة لتنظيم “داعش” في ضاحية جبرة جنوب العاصمة الخرطوم بعد معركة قتل فيها عدد من ضباط جهاز المخابرات السوداني. كما تم خلال ذات الفترة القبض على خلية إرهابية في “دارفور” من جنسيات تشادية ونيجيرية، ينتمي أعضاؤها لتنظيم “بوكو حرام” وضبط خلية إرهابية في الخرطوم تابعة لتنظيم “القاعدة”، ضمت العديد من العناصر الأجنبية، وفككت الأجهزة الأمنية في يونيو 2021 خلية إرهابية تورط فيهاعناصر إخوانية هاربة من مصر.
عودة نشاط
ويقول القيادي في لجنة التفكيك الذي طلب حجب اسمه لوجوده في مناطق الخطر بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021 جمعت معظم تلك الخلايا نفسها وجددت نشاطها بعد استعادة ممتلكاتها التي صادرتها لجنة التفكيك، بل أن قياداتها التي هربت من الخرطوم بعد سقوط نظام الإنقاذ عادت إليها مرة أخرى حيث رصد وصول عدد من القيادات المطلوبة دوليًا إلى السودان.
ويضيف إلى الآن لم نرصد بشكل قاطع مشاركة متشددين أجانب إلى جانب القوات المسلحة إلا مرة واحدة حيث ظهرت عناصر من حركة الجهاد الإسلامي الإريترية، التي كانت مدعومة من البشير وحسن الترابي، والمرتبطة بتنظيم القاعدة في اليمن وحركة الشباب الإرهابية في الصومال، في مدينة ود مدني. في الوجهة ذاتها يذهب الناشط المتخصص في الجماعات الإسلامية صلاح حسن جمعة ويقول لـ”أفق جديد” هذه الحرب حرب التنظيم الإسلامي في السودان وحشد لها كل طاقاته وشبابه وأعدهم لها قبل وقوعها وأدخلهم في فرق الجيش في القيادة العامة والمدرعات والإشارة وهم الآن مسيطرين على قرار الحرب وممسكين بقرار قيادة الجيش أيضاً، ومعلوم بحسب جمعة أن شباب الإسلاميين أكثر ارتباطًا بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين بتياراته المختلفة، لذا شهدنا في مدينة ودمدني عناصر من الإرتريين مع ضابط في الجيش أكد إنهم أتوا تلبية لنداء الجهاد في السودان، وفيما لم يتم التحقق من انتماء تلك المجموعات وإذا كانت تتبع للجبهة الشعبية لتحرير شعوب التقراي اليسارية التي لها ارتباط مع النظام البائد أم أنها تتبع لحركة الجهاد الإسلامي، ولكن ما شهدناه من حديث في الفيديو المبذول في وسائل التواصل الاجتماعي يرجح انتماءهم إلى الأخيرة، ويمضى جمعة قائلًا لـ”افق جديد”: “هذا فضلًا عن قول بعض شهود العيان إن قوات مدربة من الحرس الثوري الإيراني شاركت في معارك تحرير مصفاة الجيلي عبر المسيرات المتطورة”.
الجهاد الإرتري
ويرى جمعة أن تلقي التنظيمات الإرهابية الإسلامية الهزائم في غزة ومالي ونيجريا جعلها تتجه إلى السودان. ويقطع قائلًا: “كل هذه التنظيمات بحسب معلوماتنا الآن تقاتل في السودان إلى جانب الجيش حيث استجلبها تنظيم الإخوان، وذلك بالإضافة إلى مجموعة كتائب تنتمي إلى السلفية الجهادية وكتائب تنظيم الحركة الإسلامية مثل البراء بن مالك، وكتيبة سجيل والعمل الخاص وغيرها من الكتائب الأخرى، لذا رأينا كيف يتم التنكيل بالمواطنين بعد دخول الجيش إلى أي منطقة من المناطق حيث تتم ممارسات تكشف الوجه القبيح لهذه التنظيمات إذ يتم ذبح الناس كالشياه وهذه أفعال لم تشهدها حروب السودان من قبل.
من ناحيته يقول الصحافي السوداني كمال عبد الرحمن: “برزت خلال الأشهر الماضية العديد من الوقائع والمؤشرات التي تؤكد استغلال الجماعات المتشددة للبيئة الخصبة التي وفرتها الحرب المستمرة منذ منتصف أبريل 2023 بين الجيش والدعم السريع في السودان، وذلك لتعزيز أنشطتها في اتجاهين يتمثل الأول في تهيئة المناخ المناسب لتحويل السودان إلى قاعدة جديدة لممارسة أنشطتها الإرهابية بعد أن فقدت الكثير من أراضيها التاريخية في سوريا والعراق، والثاني في الاستفادة من وجود وكلاء محليين يسهلون المتطلبات اللوجستية اللازمة لإدخال العناصر المتطرفة وتوفير الأراضي والمعسكرات للحشد والتدريب ومن ثم إطلاق العمليات الخارجية تمامًا كما فعلت مع مؤسس القاعدة أسامة بن لادن بعد أن استقبله تنظيم الإخوان في مطلع تسعينيات القرن الماضي وفتح له معسكرات التدريب في شرق السودان.
طريق ممهد
ويمضي كمال قائلا لـ”أفق جديد”: “في الواقع، لم تجد المجموعات العابرة للحدود صعوبة كبيرة في اختراق الأراضي السودانية بعد الحرب الحالية، فنظرًا للنفوذ الكبير داخل الجيش الذي تتمتع به مجموعات نشأت وترعرعت في فترة أسامة بن لادن التي تعتبر واحدة من أخصب فترات زراعة الفكر المتطرف في السودان، كان الطريق ممهدًا لاستقبال عدد من العناصر المتشددة من شرق أفريقيا وبعض بلدان الشرق الأوسط”.
والنقاط التي أثارها كمال عبد الرحمن هي ذاتها التي استند عليها تنظيم الدولة الإسلامية المعروف بـ”داعش” إذ نشرت صحيفة النبأ، الناطقة الرسمية باسمه مقالاً افتتاحياً في عددها الأخير رقم 479 الصادر يوم الخميس 23 يناير بعنوان “السودان المنسي”.
ودعا التنظيم في المقال إلى استغلال حالة الحرب والفوضى في السودان لخدمة قضية الجهاد، وتحويل الصراع من مواجهة عسكرية ذات أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية معقدة ومتشابكة مع النزعات الاستبدادية والمصالح الذاتية والتدخلات الخارجية، إلى صدام مسلح بين الإسلام والكفر، بما يتوافق مع منظوره العقائدي وأهدافه التوسعية، ورغم أن المقال المطول محتشد بالانحرافات الدينية غير إن رسالته الأساسية هي بذل الجهد كله لاستغلال الأحداث الدامية في السودان لما سماه “صالح الجهاد”.
فكر متطرف
والمعروف طبقاً لمحدثنا كمال عبد الرحمن أن إحدى أبرز الكتائب المتحالفة مع الجيش وأكثرها نفوذًا فيه وهي كتيبة البراء، ترتبط بروابط قديمة وقوية بتنظيم داعش في بلاد الشام، فوفقًا لمقطع فيديو موثق لأحد عناصرها فإن اختيار قائد الكتيبة الحالي المصباح أبوزيد جاء بعد هجرة سلفه الذي يدعى “أبو مصعب الجعلي” إلى سوريا في العام 2012؛ وانخراطه في القتال مع تنظيم داعش في بلاد الشام مثله مثل العشرات من المنتمين إلى تنظيمات جهادية أنشاها تنظيم الإخوان في السودان بعد سيطرته على الحكم في العام 1989، واستقباله لابن لادن الذي أسهم مع عدد من العناصر المتطرفة التي لحقت به في تشكيل عقيدة المجموعات المسلحة الناشئة في السودان مثل كتيبة البراء وغيرها، وفتحت أمامها المجال لبناء علاقات قوية مع التنظيمات المتشددة العابرة للحدود.
ويضيف كمال: “خلال الأشهر التي تلت اندلاع الحرب برزت العديد من المؤشرات التي تؤكد ظهور التنظيمات المتشددة في حرب السودان، حيث سجلت العشرات من الجرائم التي ارتكبتها المجموعات المقاتلة مع الجيش مثل الذبح وجز الرؤوس وبقر البطون على ذات النهج الذي تمارسه داعش والمجموعات المتطرفة في عدد من بلدان الشرق الأوسط”.
بيئة مغرية
ويتفق كمال عبد الرحمن مع صلاح حسن جمعة بأن السودان وفي ظل الفوضى العارمة التي يعيشها حاليًا ورعاية الجيش للجماعات المتطرفة وتوفير الغطاء اللازم لها لممارسة أنشطتها، أغرى العديد من الجماعات الإرهابية المتشددة العابرة للحدود للاستفادة من هذه البيئة، وربما تشكيل إمارة جديدة للجماعات المتطرفة لتعويض ما فقدته في سوريا والعراق وغيرها من مناطق الشرق الأوسط، وهو ما دعت له صحيفة “النبأ” الناطقة باسم داعش في بلاد الشام في افتتاحية عددها الذي أشرنا إليه حيث طالبت بدعم العناصر التابعة لداعش في السودان وعلى تشكيل نواة للجهاد في السودان، والسعي إلى تجنيد وإعداد جهاد طويل الأمد، وتقديم المساعدات المالية، مثلما يفعلون في سوريا والعراق وفلسطين.
وفيما تقول مصادر أمنية ذات اطلاع واسع أن عددًا من الأجهزة الاستخبارية حذرت حكومة بورتسودان من تنامي حركة التنظيمات المتطرفة وازدياد نفوذها خلال الحرب، كشفت أخرى أن قائمة من قادة تلك التنظيمات سلمت لجهاز المخابرات العامة باعتبارهم موجودين في السودان، ونفت الحكومة السودانية على الفور علمها بوجودهم والتزمت بإلقاء القبض عليهم متى ما توصلت الأجهزة الأمنية إلى مخابئهم، غير أن القيادي في لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو يقول إن حكومة بورتسودان تتعامل مع المجتمع الدولي فيما يخص الإرهاب والإرهابيين بذات عقلية نظام الإنقاذ “المراوغة والتشطر”، مذكرًا بأنه في العام 2012 انعقدت اجتماعات موسعة للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين في الخرطوم، تحت غطاء اجتماع مجلس أمناء منظمة الدعوة الإسلامية آن ذاك وأعلن العام 2012 عام الأقصى من داخل الخرطوم، وكل تلك الاجتماعات التي حضرها عتاة الإرهابيين كانت مرصودة ومعلومة لأجهزة المخابرات العالمية بينما تنفي حكومة عمر البشير صلتها بالإرهاب وحركات الإسلام السياسي، وتلك الاجتماعات كان رد إسرائيل عليها بقصف مصنع اليرموك للأسلحة والذخائر.
وفيما توقع كمال عبد الرحمن أن تؤدي الضربة الأخيرة التي وجهتها الولايات المتحدة لمعسكرات حركة الشباب في الصومال إلى زيادة عدد عناصر الحركة في السودان مستفيدين من الأرضية الصلبة التي توفرها المجموعات المحلية التي تسعى أيضًا للاستفادة من قدرات التنظيم في القضاء على القوى المدنية التي تعتبرها العدو الحقيقي لها، إضافة إلى مساعدة التنظيم على التمدد داخل أفريقيا التي يرتبط السودان بحدود مباشرة مع 7 من بلدانها، وربما نحو تحقيق استراتيجية أكبر من خلال منح التنظيم منفذًا على البحر الأحمر، يرى القيادي بلجنة تفكيك تمكين نظام الثلاثين من يونيو أن الفترة المقبلة ستكشف الكثير من المعلومات بشأن تغلغل التنظيمات الإرهابية في المؤسسات العسكرية السودانية، ويشير في هذا الصدد إلى وجود ألوية وميليشيات جهادية إسلامية مسلحة جيدًا تقاتل إلى جانب الجيش، مثل لواء البراء بن مالك، ولواء الفرقان، ولواء البرق الخاطف، ويحمل بحسب الرجل ذات الأيديولوجيا المتطرفة التي يحملها تنظيم داعش، بل أن بعض منسوبيه قاتلوا سابقًا إلى جانب داعش في ليبيا والصومال، ويستشهد بالقول “في معارك يونيو من العام الماضي في سلاح المدرعات قتل ثلاثة من قادة هذه التنظيمات المتشددة وهم أيمن عمر، وبابكر أبو القاسم، ومحمد الفضل عبد الواحد، والأخير معروف بآرائه المتطرفة وقاتل سابقًا مع داعش في ليبيا ومع حركة الشباب في الصومال. ويعد الفضل الذي نعاه الأمين العام للحركة الإسلامية السودانية علي أحمد كرتي زعيمًا شابًا مؤثرًا داخل كتيبة البراء بن مالك وله مكانة كبيرة في أوساط شباب الحركة الإسلامية.
وفي السياق يقول مصدر رفيع بالجيش السوداني إن الحديث عن وجود تنظيمات متطرفة تقاتل إلى جانبهم في الحرب الحالية هو دعاية رخيصة تطلقها غرف مليشيا الدعم السريع في إطار محاولاتها لتشويه صورة القوات المسلحة السودانية التي يزيد عمرها عن المئة عام ولها خبرة واسعة في مجال مكافحة الإرهاب والجماعات الإرهابية، وبشأن مشاهد الذبح وبقر البطون المتكررة قال المصدر إن تلك الأفعال يقوم بها أفراد في معظمهم غير متدينين حتى ناهيك من انتمائهم لتنظيمات متطرفة ودافعهم في ذلك الانتقام من أفراد المليشيا الذين قاموا بانتهاكات واسعة ضد المدنيين مما جعل الغبن عليهم كبير. وأضاف إن القوات المسلحة تقوم بمحاسبة فورية لكل من يرتكب هذه الجرائم وغيرها، مؤكدًا أن محاكم الميدان شغالة، وتم اعتقال العديد من الضياط والجنود الذين ثبت تورطهم بارتكاب جرائم لا يقرها القانون.