حرب أبريل: انقلاب الإسلاميين الرابع على الثورة؟
الحرب الخفية بين ثنايا القتال العسكري
سمير شيخ إدريس
تحت ضغط المد الجماهيري الثوري صبيحة السادس من أبريل 2019 لم يكن أمام قادة النظام الإسلامي لسحق الثورة سوى خيارين، أولهما الاستجابة لفتوى شيخ الضلال عبد الحي يوسف بإبادة ثلثي الشعب، وهو الخيار الذي فشل في محاولة فض المعتصمين عبر أجهزتهم الأمنية وكتائب الظل من السادس حتى العاشر من أبريل الذي أظهر فيه المعتصمون صمودًا أسطوريًا بمعاونة صغار الضباط ليحافظ الاعتصام على وجوده ويعزز خيار انتصار الثورة، ما قادهم لتبني الخيار الثاني لمجاراة الأمر الواقع بالانحناء للعاصفة إلى حين انقشاع الأوضاع ومن ثم الالتفاف على المد الثوري وتسلق المشهد عبر انقلاب القصر، الذي قادته اللجنة الأمنية برئاسة عمر زين العابدين ثم عبد الفتاح البرهان بتنحية رأس النظام وإحلاله بعناصر إسلامية تدعي الانحياز للجماهير، وهو أول انقلاب لتصفية الثورة.
بانقلاب العصر التقطت الحركة الإسلامية بعض أنفاسها على مضض لترتيب وضعها في إعادة السطو على السلطة بتقديم بعض التنازلات عبر اللجنة الأمنية وصلت حد ادعاء تأييد ونصرة الثورة بمشاركة القوى السياسية المعبرة عن الثورة حينها للسلطة، ولتعزيز وضعها نجحت في استقطاب قائد الدعم السريع لصفها خوفا من أي إحتمال باستقطابه من القوى الثورية فتعزز الثورة بحماية قوى مسلحة وذلك بتغذية طموح قائد الدعم السريع في الحكم باستغلال حداثة وضعه في المشهد السياسى وإحياء الحلف القديم المتجدد بين الحركة الإسلامية والدعم السريع وإيهامه بحلول الفرصة المواتية لاقتسام الحكم بفض الاعتصام وتصفية الثورة في 3 يونيو وهو الانقلاب الثاني على الثورة.
انتشت بذلك القوى المناوئة للثورة وظنت خلو الأمر لها غير أن زلزال 30 يونيو أعادهم لرشدهم وأجبرهم على تقديم تنازل أكبر وانحناء للعاصفة بتوقيع الإعلان السياسي والوثيقة الدستورية وقبول قيام شراكة في السلطة مع القوى المدنية، وظل تربصهم بالثورة قائمًا بصناعة العراقيل أمام الحكومة المدنية والتضييق على الشعب حتى يستجير بالجيش لكن الإيمان الجماهيري بثورته وبالمسار المدني الذي رغم إخفاقاته كان يحمل الأمل في بواطنه حين أوشك أن يحقق اختراقًا كبيرًا على مستوى تأسيس النهوض الاقتصادي والعلاقات الخارجية، وهو الأمر الذي أماد الأرض تحتهم وفتح الطريق لرميهم نحو مزبلة التاريخ، مما حدا بهم نهاية الأمر لتنفيذ انقلاب 25 أكتوبر من أجل الانفراد بالحكم وتعزيز الانقلاب بمحاولة خلق حاضنة سياسية عبر التحالفات الواهية من جماعات اعتصام الموز والناظر ترك، التي كانت أوهى من أن تكون مدرجًا صلبًا يهبط بهم نحو مدارج العودة عبر الانقلاب الثالث على الثورة.
لم يكن الطريق معبدًا بالورود بعد الانقلاب كما ظنت لجنة البشير الأمنية وحلفهم الواهي مما حدا بالبرهان للبحث عن حلف ظنه الأقوة لتثبيت أركان حكمه الجديد، فعاد لمغازلة الإسلاميين بإعادتهم للخدمة ورد أموالهم وأصولهم لخلق توازن سياسي يحل محل الحرية والتغيير، غير أن الرياح سارت بغير ما اشتهت سفنه حيث لم يستطع الإسلاميون تحقيق السند والحلف المطلوب بسبب خلافهم مع الجنرال ومطامحهم للإطاحة به ما سبب له خلافًا في الجانب الآخر مع شريكه في الانقلاب وهو قائد الدعم السريع الذي استشعر بالخطر من استماله شريكه لفلول الإسلاميين الذين إن تمكنوا من الحكم سيكون قائد الدعم أول ضحاياهم طلبًا للثأر القديم ثم كونه صاحب القدرة العسكرية التي يمكن أن تشكل التهديد الأكبر نحو صفاء حكمهم، لذلك اتخذ حميدتي موقفًا مناوئًا لهذا الحلف البرهاني الإسلاموي وبدأ في تنظيم صفوفه نحو معركة قادمة فتبرأ من الانقلاب وحاول بناء تفاهمات مع القوى المدنية بتبني الاتفاق الإطاري مع قوى الحرية والتغيير الذي سيشكل التوقيع النهائي عليه نهاية حلم الإسلاميين بالعودة للسلطة، سيما وأنهم ضاقوا ذرعًا بالبرهان والمليشيا التي أصبحت حائط صد استقوى بالقوى المدنية من جهة أخرى فلم يصبح أمامهم سوى إزاحة القوة العسكرية بتنفيذ الانقلاب الرابع فبدأ قادتهم بنشر المقالات بإعلان الحرب على المليشيا ودنو أجلها ووضع الجنرال وقادة الجيش أمام سلطة الأمر الواقع بإشعال فتيل الحرب عبر عناصرهم المتبقية بالجيش وجهل القيادات العسكرية بها بدليل وقوعهم في الأسر صبيحة الاشتباكات وما تراءى للجميع من ارتباك الجيش في إدارة المعركة في بدايتها بشكل يوضح أنه لم يكن مستعدًا أو مبادرًا لتخطيط قيامها، وكانت توقعاتهم بإمكانية حسم الحرب وسحق الدعم السريع خلال ساعات وهو ما لم يتحقق على أرض الواقع حيث أساءوا تقدير مقدرات الدعم السريع الذي جرهم نحو حرب استنزاف طويلة قاربت العامين، وهذا الانقلاب كان الأخطر على الثورة في سبيل تصفيتها وعودتهم للحكم لما ساقه من دمار شامل للوطن الذي لا يأبهون له حيث رددوا في شعاراتهم قبل الحرب إما العودة أو الفوضى الشاملة.
الحرب الخفية بين ثنايا القتال العسكري
لم يعد خافيًا ضلوع الإسلاميين في حرب أبريل وتمكنهم بمرور الوقت من التمدد في مراكز التحكم بقرارات الحرب باستنهاض مليشياتهم العسكرية وخلاياهم النائمة وتغلغلهم بين القوى المقاتلة في القوات المسلحة ضد مليشيا الدعم السريع، وهذه القوى العسكرية للإسلاميين لم تنهض من الفراغ وليست معزولة في إدارتها للمعركة بل تستند على غطاء سياسي كامل تقف خلفه قيادات الإسلاميين بالخارج تدبيرًا وتخطيطًا من أجل دحر المليشيا والتمهيد لعودة النظام الإسلامي البائد للسلطة وتصفية الثورة التي اقتلعته وبدأت في التأسيس لقيم جديدة في الحكم على أساس المواطنة والعدالة وكنس المفاهيم التي كرس لها نظامهم القديم في إذكاء العنصرية والقبلية وفساد المنظومة الحاكمة على أساس المحسوبية ما أدي إلى انهيار الدولة.
البادي للعيان ولرجل الشارع البسيط أن الحرب التي تشتعل أوارها الآن تدور رحاها بين جيش وطني تمثله القوات المسلحة غض النظر عن أدلجة هذه المنظومة والسيطرة عليها من قبل حزب سياسي معين وبين مليشيا الدعم السريع التي ارتكبت في حربها الكثير من الانتهاكات والفظائع بحق المدنيين، غير إن الخفي على العيان هي الحرب الخفية في ثنايا القتال العسكري التي يقودها الإسلاميون بتواطؤ مع القيادة العسكرية للجيش ضد كل المنظومات والمظاهر الثورية التي أدت لإسقاط نظامهم في السابق، ووضح تبنيهم للحرب وتوجيه أجندتها لمشروعهم القديم باستعادة منهجهم الحربي السابق باصباغ الصفات المقدسة على الحرب ونعتها بحرب الكرامة والتبشير بأنها حرب الحق في مواجهة الباطل ونزع نحو استنساخ مسميات فصائلها بهوس حربهم القديمة بكتائب الصحابة كالبراء ونعت مناهضي الحرب بالعمالة والخيانة، وقد اغتنم الإسلاميون الحرب كفرصة لإعادة تنظيم صفوفهم وبعث خلاياهم النائمة للقيام بأدوارهم السابقة.
يخوض الإسلاميون حربهم الخاصة داخل الحرب القائمة في مواجهة الدعم السريع، حيث أنهم يعلمون تمام اليقين بأن دحر المليشيا لن تعود كافية لتمهيد صفو عودتهم للسلطة الذي ستعكره القوى الثورية التي لا تزال قائمة ومتمسكة بمبادئ ثورة ديسمبر وتحلم باستعادة مسار الثورة حين تضع الحرب أوزارها، وليس خافيًا على الإسلاميين قوة هذا التيار وما قد يشكله من عقبة في وجههم إذا انتهت الحرب، لذا فإن العدو الماثل أمامهم تمثله قوات الدعم السريع التي تشكل مهددًا لوجود الإسلاميين، لذا فإن وجهتهم لهذه الحرب هي البل والدحر الشامل للمليشيا دون أدنى مهادنة أو اتجاهات لإنهاء الحرب أو التفاوض لوقفها الذي سيقود لإعادة المليشيا للمشهد السياسي القادم الذي سيهدد بالضرورة وجودهم، أما العدو الآخر الذي لا يقل خطورة عن قوات الدعم السريع فهو القوى الثورية الماثلة لذلك قاد الإسلاميون حربًا خفية في ثنايا القتال العسكري ضد المليشيا هذا ضد هذا التيار الثوري بهدف تصفيته من خلال الحرب وإنهاء أي مهدد يعيق وصولهم للسلطة متى انتهت الحرب، وقد تجلت تلك الحرب السرية في شكل منظم يقوده أنصارهم ضد القوى الثورية وكل مظاهر الوجود الثوري بدرجة عالية من العنف بهدف تصفية هذه القوى مستعينة في ذلك بما تملكه من رصيد سابق في صراعها ضد القوى الثورية وما تحمله تجاهها من ضغائن بسبب إسقاطها لسلطتهم البائدة، إضافة إلى ما توافر لهم بسبب الحرب من قوى عسكزية وأسلحة وتنظيم لدى عضويتهم وسلطة يمارسونها عبر تغلغلهم في المنظومات العسكرية التي تدير الحرب.
أهم مظاهر هذه الحرب السرية ضد قوى الثورة هو تصفية النشاط الثوري المدني المناهض للحرب والداعي لاستنهاض أهداف الثورة وذلك عن طريق منع الفعاليات المدنية أو الحزبية وقيام المنابر الداعية لوقف الحرب وحظر أنشطة الكيانات الثورية والمدنية عن ممارسة حقها في التنظيم والتعبير باستهداف أفراد وقيادات تلك المنظومات من القوى المدنية ولجان المقاومة بالاعتقال والملاحقة والتشريد والتضييق عليهم في الحركة داخل المناطق التي تخضع لسيطرة الجيش ما دفع العديد من أفراد تلك الكيانات والقوى السياسية لمغادرة البلاد قسرًا وممارسة أنشطتهم خارج البلاد، وتوقف من هم بالداخل عن ممارسة أي نشاط بسبب التضييق الذي تقوم به الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التي يقودها الإسلاميون أو عبر عضويتهم وكياناتهم العسكرية التي تنشط بحرية تامة في مناوئة وملاحقة كل من ينتمي للتيار الثوري والحزبي بهدف التصفية أو الحد من نشاطه. وتمثل ذلك حتى في محاربة ممارسة الأنشطة الإنسانية التي قامت لمساعدة المواطنين من أضرار الحرب بمضايقة وملاحقة القائمين على غرف الطوارئ ودور الإيواء رغم سلمية أنشطتها إلا أنها تستهدف بسبب عضوية القائمين بأمرها من ينتمون للجان المقاومة أو عرفوا بالمواقف المناهظة للنظام البائد أو الانقلاب ويتبنون خطاب مناهضة الحرب والدعوة لوقفها.
ومن جهة أخرى يدعم جنرالات الجيش هذا النشاط المحموم من الإسلاميين لتصفية كل الأشكال الثورية القائمة بتكريس أجهزة الدولة في عمليات الملاحقة ضد القادة التوريين، حيث قامت النيابة العامة بقيد بلاغات جنائية واستصدار أوامر القبض في مواجهة قادة ومنسوبي القوى المدنية بتهم الخيانة العظمى مع التعرض للتضييق حال سفر عضوية الأحزاب الآخرين خارج البلاد أو عند قدومهم، وأضحت تهمة التعاون مع الدعم السريع هي التهمة التي يمرر من خلالها كل أفعال الأجهزة الأمنية لتصفية الخصوم من المعارضين وقادة التيارات الثورية، وقد تم تقديم العديد من المواطنين في بعض الولايات التي تخضع لسيطرة الجيش للمحاكمة تحت هذه التهم وصدرت ضدهم أحكام متفاوتة وصلت للحكم بالإعدام وكان بين المتهمين عدد من النساء والفتيات، وقد وصل الانحطاط بهذه الأجهزة الأمنية والاستخباراتية أن وضعت عرفًا للملاحقة تحت قانون الوجوه الغريبة الذي يسمح لتلك الأجهزة باتهام الوافدين إلى مناطق سيطرتهم نزوحًا من جحيم الحرب في مناطقهم الأساسية فقط للاشتباه في كونهم يحملون سحنًا مختلفة وغرباء عن المنطقة. كما تقوم هذه الأجهزة باستعراض قوتها ونشر القوات بالأزياء والآلات العسكرية والأسلحة في مناطق المدنيين الآمنة بغرض عسكرة الحياة العامة وفرض السطوة العسكرية على حساب مصادرة المظاهر المدنية وتهديدها عن الظهور في الحياة العامة مع التهديد الدائم بالتهم المغلفة حال تعرضت لمقاومة مظاهر العسكرة المفروصة.
على جانب آخر من النشاط العسكري للإسلاميين تنشط آلتهم الإعلامية التي تتحرك بحرية واسعة في مدن سيطرة الجيش في محاولة تزيين موقفهم كمنافح عن الوطن والأرض والعرض ضد المليشيا ومن يتعاون معها، ويكفل لهم نظام الجنرالات وأجهزتهم الأمنية الحرية الكاملة للقيام بذلك وهم لا يخشون من استعراض وفرض سطوتهم على المشهد حيث يعقدون اجتماعاتهم على الملأ ويظهر قادتهم في الحياة العامة وعلى المستوى الرسمي مثل إبراهيم محمود حامد مساعد البشير وأحمد هارون بالشكل الذين يريدون به إخطار الملأ بعودة سيطرتهم على المشهد ونهاية الثورة، متخذين من الحرب طوقًا لنجاتهم نحو بر السلطة وفرصة سانحة للإجهاز على الثورة، وتنشط هذه الآلة الإعلامية المضادة للثورة في محاولة التأثير على العامة ومحاولة تشكيل رأي عام بالهجوم الحاد ضد مناصري الثورة من القوى المدنية في الحرية والتغيير وجبهة تقدم ولجان المقاومة والقوى المتبنية لخطاب لا للحرب باعتبارها قوى متواطئة مع المليشيا ضد الوطن وهي في قرارة نفسها تعمد لتصفية الثورة وتحميلها وزر ما حاق بالمواطن من البؤس والضنك الحالي وأنهم الخيار الأمثل لعودة الطمأنينة والأمن.
على الرغم من كل تلك المحاولات لا تزال الثورة كامنة في نفوس الكثير من الجماهير الذين يحدوهم الأمل في انتصارها وإكمال مهامها باعتبار المشهد الحالي مرحلة انتقال لا بد منها لأخذ الدروس والعبر والمضي بالتجربة نحو حدها الأقصى لإعادة تأسيس المشهد السياسي الذي لا يزال ينادي بتصفية الحياة العامة من الخطل العسكري وإعادتهم للثكنات وحل المليشيا عبر استعادة المسار المدني وإفشال مشروع الردة السياسية الذي تدعمه قوى إقليمية ودولية يؤرقها نهوض الشعوب عبر ثوراتها الشعبية بالشكل الذي يخالف إرادتها في ترتيب المشهد الدولي وفقًا لما يتطابق مع مصالحها التي تتعارض مع حرية الشعوب ورغباتها في إدارة أنظمتها الحاكمة وفق أسس الديمقراطية، والعدالة وهو صراع يطول أمده لكن حتمًا ستنتصر إرادة الشعوب.