نحن آسفون يا وطن

غسان.. الخروج الأخير

 

أفق جديد

غسان أحمد الأمين بخيت، لا يختلف عن أقرانه في أحياء الخرطوم بحري القديمة في شيء سوى أنه قليل الكلام، مجامل، لا يتأخر عن واجب في الحي أو حتى المدينة، يحب كما جميع أهل المدينة الاتحاد البحراوي، مشكلًا بحضوره الباهي وجودًا في النادي العريق وجميع الأنشطة التي ينفذها.. مضت أيامه هكذا يوم يسلم الآخر في يوميات مدينة بحري.

عندما نشبت الحرب صادف اندلاعها وجود والد غسان المصور ذائع الصيت والصحافي أحمد الأمين في القاهرة مستشفيًا من داء ألم بعينيه، وكاد أن يفقده البصر. آثر غسان البقاء بمنزلهم في ديوم بحري صامدًا مع شقيقاته وأمه التي تعاني من مرض القلب، مكابدًا شظف العيش ومخاطر المعارك، كما غيره من الذين لم تسعفهم الظروف على المغادرة، ما يقارب الثمانية عشر شهرًا أمضاها غسان متنقلًا على دراجته الهوائية بين ديوم بحري حيث يقيم وحي الشعبية لتفقد خالته وخاله الكبيرين في السن، يداوي بالكلمة الطيبة ويطمئن، ويرفع الأمل في من يحبط منهم. لم تكن حياة غسان تحت سيطرة المليشيا هانئة فتعرض بلا شك إلى العديد من المخاطر غير إنه لا يحدث أهله بها خوفًا عليهم، متى ما وجد في الشبكة حياة يهاتف والده ليؤكد له أن الجميع بخير.

هكذا مضت أيام غسان خلال الحرب إلى يوم أن سمع بأن الجيش وصل إلى منطقة الشعبية، ولأن الاتصالات مقطوعة، ركب دراجته وأبلغ والدته انه ذاهب إلى الشعبية ليطمئن على خالاته وخاله المريض، وكان ذلك هو الخروج الأخير. 

مرت الساعات طويلة على والدته ولم يعد. وعندما حل الظلام دفع القلق الوالدة التي لم تعتد غياب ابنها كل هذه المدة إلى الخروج والبحث عنه. وصلت إلى أحد ارتكازات الجيش، لكن تمت إعادتها إلى المنزل، لم تشفع توسلاتها وتساؤلاتها عن ابنها أمام الجنود صارمي الملامح. عادت إلى الديوم وقلبها المتعب يزداد رهقًا وضعفًا على ضعف.

عند شروق شمس اليوم التالي واصلت رحلة البحث ووصلها الخبر الفاجع أن ابنها تم ضربه برصاصة في الرأس من الخلف في حي الشعبية جنوب جوار بقالة الأسد، ولفجيعتها إنه الارتكاز ذاته الذى ردها بالأمس، سألتهم “أنتم من قتلتم ابني”؟ فأجابوها بـ”نعم، ناديناه ولم يستجب وظننا إنه دعامي وأطلقنا عليه النار، عليه رحمة الله ونحن آسفين”! 

كانت كلمة “آسفين” آخر ما سمعته والدة غسان قبل أن تدخل في غيبوبة. “نحن آسفين” هكذا أسدل الستار على حياة غسان أحمد الأمين بخيت، هكذا فقدت أم ابنًا بارًا، وحرم منه أب يكابد العلاج، وهو مطمئن أن له ابنًا سيكون بصره إذا فقد البصر، وعضدًا إذا خارت قواه.

يوم طويل في النو

رائحة الموت تغطي جنبات المستشفى، صراخ وعويل يملأ الأنحاء، وأنين الجرحى يتصاعد بلا توقف، بينما الأطباء في حالة من الذهول لهول الصدمة وكبر الفاجعة، يركضون في كل مكان، العمليات العاجلة تُجرى على الأرض، وبعضها دون تخدير، بتر أطراف، خياطة ونظافة جروح، ومحاولات إسعافية لإعادة الحياة لقلب توقف.

كل شيء في المستشفى كان السبت الماضي يرتجف، في الباحة الخلفية للمستشفى الدفار يُخلى الموتى الذين تم استجلابهم من سوق صابرين، الذي شهد أبشغ مجزرة منذ بدء الحرب راح ضحيتها قرابة 200 شخص ما بين جريح وقتيل. 

أحد المتطوعين في المستشفى الوحيد العامل في أم درمان، يروي التفاصيل على صفحته في فيسبوك قائلًا: “جيت راجع  المستشفى قبيل وأنا في حالة صدمة، بجد كانت من أصعب الأيام المرت بي في حياتي، ياما سترت جثامين خلال فترة الحرب ماتوا بي تدوين بس بكون أهلهم ما في، قبيل الوضع مختلف”.

ويضيف المتطوع مصعب الجاك قائلًا “بعد الانتهاء من التبرع بالدم ذهبنا إلى منطقة فرز الجثامين، نجمع الأطفال لوحدهم والنساء كذلك. لم يكن الأمر هينًا ملامح الناس البسطاء، الوجوه الملطخة بالدماء في قسم مجهولي الهوية، يزداد حجم الفجيعة عندما تفتح للناس الكيس عشان يتعرفوا على أهلهم، تفتح وجه الجثمان المسجى فيرد ليك مرافقك ده أبوي ويبدأ نوبة بكاء وأنت ما قادر تصبروا”. 

ويتابع: “بالقرب منك كانت إحداهن أتت تبحث عن أمها فوجدتها ضمن الموتى فدخلت في صدمة، لم تتفوه بكلمة ولا أطلقت آه وباتت تحول بصرها بين الوجوه وكأنها تستجديهم بأن يقولوا لها أنت في حلم.

ويمضي المتطوع راويًا مأساة السبت التي تنصلت عنها أطراف الحرب وكل حاول  أن يرميها على الآخر: “أتت طفلة لا يزيد عمرها عن 14 عامًا تبحث عن أشقائها الصغار، عرفت واحدًا بين الجثث، ودخلت في نوبة من البكاء وطفقت تسأل عن أخوها الثاني الذي كان في الداخل مقطعًا إلى أشلاء ولم يستطع أحدنا أن يخبرها بذلك”. 

مشهد آخر يرويه المتطوع عن مسنٍ دلف إلى المستشفى وهو يردد بصوت عالٍ “يا رب ولدى الوحيد ما يكون مات”. وللأسف كان ابنه مسجى جثمانًا بلا حراك داخل أحد تلك الأكياس البيضاء.

سكاكين المتشددين

قتل القيادي بحزب الأمة القومي، ومدير إدارة التعليم بمحلية أم روابة بولاية شمال كردفان أحمد الطيب عبيد الله “ذبحاً” وفصل رأسه عن جسده بواسطة كتائب البراء بن مالك.. وقال شهود عيان إن مجموعة من كتيبة البراء وبعض الجنود كانوا يحملون “لستة” عليها أسماء بعض المواطنين تتهمهم بالتعاون مع قوات الدعم السريع.

وقالت القيادية بحزب الأمة وعضو المكتب السياسي للحزب، مكة الدود، إن القتيل أحمد الطيب عبيدالله كان معلمًا بالمعاش، ويشغل منصب رئيس الحزب بمحلية أم روابة، وعرف بين الجميع بتواضعه الجم، وحبه للوطن الذي أفنى فيه زهرة شبابه متنقلًا بين بواديه وفرقانه في التعليم.

وأشارت مصادر من داخل مدينة أم روابة أن كتائب البراء بعد أن نفذت عملية ذبح القيادي بالأمة كانت تلوح برأسه وهو مفصول عن جسده للمواطنين، مضيفة أن مصير العديد من المواطنين سوف يكون على هذه الشاكلة.

وقال حزب الأمة القومي في بيان إن مرتكبي الجريمة منعوا المواطنين من الاقتراب من جثمان القتيل لأكثر من ثلاث ساعات وهو يسبح في دمائه. ونوه الحزب إلى توارد الأنباء عن ارتكاب مجازر وإعدامات ميدانية مماثلة بحق المواطنين في المدينة.

وأوضح إن مدينة بحري شهدت قبل يومين جرائم مماثلة وصلت إلى حد التمثيل بالجثث وحرقها وسحل وقتل آخرين أمام أعين المواطنين في مشهد لا يمت للإنسانية بصلة.

وأدان الحزب بشدة هذه الجرائم البشعة. وحمّل قيادة القوات المسلحة والمليشيات المتحالفة معها كامل المسؤولية عن كل هذه الانتهاكات المروعة بحق المواطنين في المناطق التي تدخلها قواتهم. وقال إن هذه الانتهاكات تستوجب المساءلة والمحاسبة. 

وطالب الحزب قيادة القوات المسلحة بالتحقيق في هذه الجرائم وتوقيف مرتكبيها وتقديمهم للعدالة. كما شدد على وقف هذه الانتهاكات بحق المواطنين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى