أثر حكم الإسلام السياسي على تحول الشخصية السودانية

ندى أبو سن
ندى أبو سن

 لم تعتمد عقيدة الإسلام السياسي على القيم الإسلامية التي تدعو إلى الحفاظ على حقوق وكرامة الإنسان المسلم والعدالة والمساواة بين أفراده كأساس للحكم،

وإنما اعتمدت على الاستعلاء بالإسلام الذي اتخذت منه فقط اسمه بالرغم من أن كل الأحاديث والآيات القرآنية تحث على هذه القيم.

 انتشرت عقيده الإسلام السياسي في عدد من بلدان الشرق الأوسط والعالم مستغلة للعاطفة الدينية لدى الشعوب المسلمة وتقدمت إلى ميدان العمل السياسي والحكم في عدة دول كالجزائر وتونس ومصر والسودان. 

غير إنها سرعان ما تراجعت وفشلت في الحفاظ على ما وصلت إليه بسبب تناقض أفعالها مع أقولها، وظهر ذلك في عقلية الاستبداد والإرهاب والاستعلائية التي أوصلت بعض هذه الأنظمة إلى مرحلة من الغرور جعلتها تدخل في خصاص وصفات الذات الإلهية بالتشريع تبعًا لهوى الجماعة والتكفير، وتسلطت على رقاب الناس وعملت على قهرهم وظلمهم ومحاولات تقييدهم عبر القوانين، 

وكانت تجربة السودان مع جماعة الإسلام السياسي هي الأسوأ على الإطلاق من بين كل تلك الدول. وقد جاءت على فترتين:

الأولى كانت في اوائل الثمانينيات في عهد الرئيس جعفر نميري الذي تحالف في آخر عهده مع الجبهه الإسلامية القومية برئاسة حسن الترابي الذي وضع مع آخرين قوانين سبتمبر ٨٣، التي كان لها أبلغ الأثر في تحول الشخصية السودانية المتدينة أصلًا والمحافظة البسيطة التي تشكلت عبر الأزمنة متأثرة بالطبيعة والجغرافيا والدين والتنوع العرقي والثقافي فجاءت هذه القوانين المتطرفة التي تخالف تعاليم الدين فتسلطت وتجسست على عورات الناس وهتكت ستر البيوت الآمنة، وشهرت بالأسر وظلمت الضعفاء وتركت الأغنياء وعملت في الناس قتلًا وقطعًا وجلدًا إلى أن ساقت المفكر السوداني الكبير الأستاذ محمود محمد طه إلى حبل المشنقة وهو في السبعين من عمره وهو يشهد أن (لا إله إلا الله) في حادثة وجدت إدانات واسعه محليًا ودوليًا.

صدمت هذه القوانين المجتمع السوداني وقتها وأوصلت الكثيرين إلى الإلحاد، وشوهت الدين في نظر منسوبيه والعالم وربطته بالإرهاب والعنف، كما عانى المجتمع السوداني وقتها من حالة الانفصام بسبب التناقض بين ما عرفه عن دين الرحمة والإنسانية الذي نشأ وعاش عليه وما بين دين التطرف والاستبداد والعنف.

 أما الفترة الثانية لحكم الإسلام السياسي للسودان فقد كانت فيما يعرف بنظام الإنقاذ في عام ١٩٨٩ حيث تآمر عراب الحركة الإسلامية واتباعه بالانقلاب على الحكومة الديمقراطية بقيادة الراحل السيد الصادق المهدي بعد أن رفضت الجبهة الإسلامية التوقيع على ميثاق الدفاع عن الديمقراطية شهدت بدايات الإنقاذ مناصبة العداء للدول الكبرى والغرب “أمريكا روسيا قد دنا عذابها”، حيث بدأ النظام سياسة التجييش وتفريخ المليشيات وقام باستعداء دول الجوار بالتآمر على الأنظمة فيها وتصدير الإرهاب إلى الدول، فتورطت الإنقاذ في التفجيرات والاغتيالات وفتحت البلاد أمام الجماعات المتطرفة إلى أن حاصرها المجتمع الدولي بالعقوبات التي عزلت السودان وأقعدته عن التقدم أسوة بالدول وحرمت شعبه من الحياة الكريمة.

وقد لاقى الشعب السوداني ما لاقى من استبداد وتنكيل وقتل وترويع استمر لأكثر من ثلاثة عقود عمل فيها النظام على إصدار القوانين المقيدة للحريات التي استهدفت النساء بشكل خاص، كما تمت ملاحقة المعارضين بالاعتقال والتعذيب في بيوت الأشباح التي كان أشهر حوادثها دق المسمار على دماغ نقيب الأطباء الدكتور المناضل علي فضل، وغيره ممن قتلوا واغتصبوا من الرجال والنساء داخل سجون جهاز الأمن.

وفي جريمه أخرى تم دفن ثمانية وعشرين ضابطًا من خيرة ضباط القوات المسلحة وهم أحياء بتهمة محاولة الانقلاب على السلطة في حادثة هزت الشعب السوداني في ليلة العيد وآخر يوم لرمضان، وللمفارقة فإن معظم جرائم المتأسلمين البشعة ارتكبوها في شهر رمضان المعظم كجريمة فض اعتصام القيادة العامة وحرب الخامس عشر من أبريل، الحرب التي أشعلوها في وسط المدنيين ولم يراعوا فيها لحرمة الشهر.

 كما خاض نظام الإنقاذ حرب الجنوب عبر خطاب الكراهية وإعلان الجهاد والتكفير حيث شهد بنو جلدتنا في جنوبنا الحبيب أسوأ الانتهاكات والجرائم ضد الإنسانية مما أسهم في تعزيز قرار الانفصال لدى أهالي جنوب السودان، وتكرر نفس العنف والإرهاب مع كل صاحب قضية في مناطق السودان المختلفة، حيث شهدت دارفور وجنوب كردفان قصف الطيران للمدنيين بالبراميل المتفجرة وصنوف من الانتهاكات التي وصفت بالتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية فقط لمطالبتهم بحقهم في الحياة الكريمة. 

شهدت فترة الإنقاذ سلسلة من الانتهاكات على الإنسان السوداني الأمر الذي جعل الكثير من المعارضين والناشطين يغادرون البلاد بسبب البطش والملاحقة والقتل والتعذيب خارج نطاق القانون والاختفاء القسري لآلاف السودانيين بالإاضافة إلى سياسة التمكين التي وضعت أعضاء التنظيم لغير المؤهلين في الوظائف الحكومية بينما حرمت غيرهم من الكفاءات السودانية من حقهم في فرص العمل الأمر الذي دفع بالكثيرين إلى مغادرة البلاد بحثًا عن فرص للعمل والحياة الكريمة في مواطن ومهاجر بعيدة مما أفرغ البلاد من كفاءاتها، وكان لهذه السياسات أسوأ الأثر على المجتمع السوداني وتهتك نسيجه الاجتماعي، حيث انتشرت البطالة وارتفعت معدلات الفقر والجريمة وظهور العصابات كتسعة طويلة والنيقرز وكثير من الظواهر السالبة التي لم يعرفها المجتمع السوداني من قبل كالنفاق والتملق والرشوة وانتشار المخدرات التي تجلب للبلاد عبر نافذين في الدولة وارتفاع معدلات الطلاق وازدياد ظاهرة الأطفال مجهولي الوالدين وازدياد أعداد المتسولين في الشوارع. فانتشرت الأعمال المضرة باقتصاد الدولة كتجارة العملة والأعمال التي تسمسر في احتياجات الناس مما يجعلهم عرضة للاستغلال والابتزاز وأكل أموالهم بالباطل وظهور عدد من الأعمال الهامشية التي اضطر المواطنون للعمل بها في ظل سياسة التمكين وعدم وجود فرص للعمل. أفرز هذا الواقع تداعيات خطيرة على الشخصية السودانية ولما قد حدث لها من تحول خاصة في ظل تناقضات المشروع الحضاري الذي ارتبط باستحلال المال العام ونهبه بصورة غير مسبوقة أفقدت البلاد أصولها واحتياطاتها النقدية وأفقرتها وفقدت كرامتها الوطنية أمام الدول وترتب على هذه السياسات فقدان القيم السودانية فانتشر النفاق والتملق للصوص من المتمكنين واحترامهم ومعاملتهم معاملة الشرفاء في وقت كان يجب عزلهم اجتماعيًا وملاحقتهم قانونيًا ولكن للأسف بسبب هذه الظواهر ارتبط طلب الثراء لدى بعض السودانيين بالحصول على وظيفة مرموقة في دولة المشروع الحضاري، بالإضافة إلى انتشار ظاهرة الكذب والتضليل وانتشار ثقافة التنمر واغتيال شخصيات الغير بالتلفيق والتشهير لمجرد خلاف في الرأي والاساءة خاصة مع الانفتاح على وسائل التواصل الاجتماعي التي يعتبر أن تجربة تعامل السودانيين فيها كانت الأسوأ على الإطلاق حيث كشفت هذه الوسائط عن الكثير من عورات مجتمعنا وعاهاته وأتاحت الفرص لأصحاب العقول الشائهة والنفوس المريضة للظهور وأذية الآخرين، هذا بالإضافة إلى تعاطي المجتمع بشكل طبيعي مع ظاهرة السباب عبر الوسائط واعتبار متابعة المثليين والسيدات السيئات أمراً مقبولًا وطبيعيًا.

انحدار مريع شهدته الشخصية السودانية بدا واضحًا في انتشار ما يسمى بالقونات والغناء الهابط والرقص المبتذل والألفاظ السوقية الغريبة كل ذلك كان في ظل سلطة المشروع الحضاري التي طال فسادها حتى مستوى جودة التعليم الذي أفرز ظاهرة الجهلة من حملة الشهادات والألقاب العلمية المعروض في السوق ثورة التعليم الإنقاذية. كما انعكس الفساد في تعمد هدم النظام الصحي الحكومي وابتزاز المرضى المضطرين إلى العلاج في المستشفيات الخاصة الباهظة التكلفة.

هذا التداعي المريع للشخصية السودانية كان نتاج طبيعي لفساد منظومة الإسلام السياسي الحاكمة، بالإضافة إلى بعض مواطن الخلل والضعف الموجودة أصلًا في العادات والتقاليد الاجتماعية السودانية.

ويحتاج إصلاح هذا الخلل إلى ثورة للتغير والإصلاح السلوكي تتطلب تضافر الجهود من ذوي الاختصاص والمجتمع والإعلاميين وكل قادر على الإسهام في إصلاح هذا الخلل.

ندى ابو سن

تخرجت من كلية الاعلام بجامعة الخرطوم التطبيقيه في علم ١٩٩٩ و عملت بصحيفة الصحافة السودانية في عام ٢٠٠٧ ككاتبه مقالات حره ثم عملت بصحيفة الحقيقة ككاتبة عمود اجتماعي بعنوان (ومضه) اتعاون الان مع عدد من الصحف الإلكترونية حيث اكتب مقالات سياسيه تحليلي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى