عندما زرعنا العشر وانتظرنا التمر:

 قراءة غير مباشرة لمحفل نيروبي وتأثيراته على القوى الديمقراطية المدنية

أحمد عبد العاطي
أحمد عبد العاطي

شهد السودان محاولات متعددة من قبل المجتمع الدولي لحل أزمته عبر مسار تفاوضي سلمي، إلا أن جميع هذه المحاولات باءت بالفشل ولم تحقق أي تقدم يُذكر. انصبَّ تركيز معظم هذه الجهود على جمع الطرفين العسكريين على طاولة المفاوضات لمناقشة القضايا العسكرية فقط، مثل وقف إطلاق النار والهدنات الإنسانية، على أن يلي ذلك في مرحلة لاحقة حوار سياسي بين القوى المدنية بغرض التوصل إلى اتفاق لتقاسم السلطة والثروة، ومن ثم تدشين مرحلة انتقالية بقيادة مدنية.

فشل المنهج الدولي في تحقيق التوازن السياسي

كان من المفترض، وفقًا للرؤية الدولية، أن تتسع الكتلة المدنية وتزداد نفوذًا حتى تكتسب القدرة على فرض حل سياسي على طرفي النزاع، وتسحب الشرعية من الحرب، مما يؤدي إلى عزلها شعبيًا وإجبار الأطراف المتحاربة على الخضوع للحل السلمي. إلا أن ما حدث كان على العكس تمامًا، إذ لم تنجح القوى المدنية في تعزيز موقعها السياسي، ولم يتراجع العسكريون عن طموحاتهم السلطوية.

أحد الأخطاء الجوهرية التي وقع فيها المجتمع الدولي تمثل في اعتماده على استراتيجية “التجميد السياسي” لأطراف النزاع، حيث افترض أن بإمكانه انتزاع اتفاق بين العسكريين حول وقف الأعمال العدائية دون الأخذ في الاعتبار لمصالحهم الاستراتيجية، ثم الانتقال لاحقًا إلى مرحلة الحكم المدني، مع إقصاء العسكريين من المشهد السياسي. غير أن هذا التصور لم يكن واقعيًا؛ فالعسكريون لن يسلموا السلطة بهذه السهولة، لا سيما بعد الخسائر الفادحة التي تكبدها كل طرف خلال النزاع، التي تجعل من المستحيل توقع أن يتخلوا عن سلاحهم وكأنهم كانوا يتقاتلون بسبب سوء فهم.

استراتيجية المرحلتين: كيف استفاد العسكريون منها؟

كان من المفترض أن تُدار العملية السياسية وفق مرحلتين: الأولى تخص القضايا العسكرية والأمنية، والثانية تتناول الحوار السياسي بين القوى المدنية. غير أن العسكريين أدركوا خطورة المرحلة الثانية، إذ ستحدد ترتيبات تقاسم السلطة، ولذلك عملوا على عرقلتها ولم يوقعوا أي اتفاق نهائي، لأن أعينهم كانت مُثبَّتة على تلك المرحلة القادمة. بل إنهم اتخذوا خطوة إضافية بتوسيع تحالفاتهم وضم مكونات مدنية إلى معسكرهم، لضمان وجود أذرع سياسية تخدمهم حال تعرضهم لضغوط داخلية أو خارجية تجبرهم على تقديم تنازلات كما سنوضح في الفقرة القادمة.

تحولات المشهد السياسي في نيروبي: انحسار القوى المدنية لصالح العسكريين

 التطورات التي شهدتها نيروبي اليوم كشفت عن انقلاب في المسار المتوقع. فبدلًا من توسع نفوذ القوى المدنية كما خُطط لها من قبل الديمقراطيين وحلفائهم الدوليين، شهدت الساحة السياسية انكماشًا واضحًا لهذه القوى مقابل تعزيز الحضور السياسي للقيادات العسكرية. فعلى سبيل المثال، كان قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان محاطًا في الفترة السابقة بمكونات مسلحة، مثل جبريل إبراهيم ومني أركو مناوي وقادة ميليشيات آخرين، لكنه مؤخرًا وقّع – أو على الأقل أعلن – تفاهمات مع قوى سياسية بارزة، أبرزها الكتلة الديمقراطية وبعض التيارات السياسية والمدنية وشخصيات مؤثرة. وفي المقابل، اتجه محمد حمدان دقلو (حميدتي) إلى ضم مجموعات سياسية ومدنية أخرى إلى صفّه، مما يرسخ واقعًا جديدًا تكون فيه القوى المدنية جزءًا من الاصطفافات العسكرية بدلًا من أن تشكل قوة ضغط مستقلة.

إعادة ترتيب الأولويات: نحو عقد اجتماعي جديد

ما يحتاجه السودان اليوم ليس عملية تفاوض ذات مرحلتين عسكرية ومن ثم مدنية، وإنما إعادة هيكلة شاملة للمسار السياسي والاجتماعي. إذا كان لا بد من اعتماد نهج المرحلتين، فمن الأجدر أن تكون المرحلة الأولى مخصصة للحوار الاجتماعي بين مختلف المكونات السودانية، بهدف صياغة عقد اجتماعي جديد يؤسس لدولة المواطنة والحقوق المتساوية، على أن تأتي المرحلة الثانية للحوار السياسي بين القوى التي تمثل الشعب، لوضع أسس الحكم الديمقراطي العادل الذي يلبي تطلعات جميع السودانيين.

إن إخفاق المجتمع الدولي والقوى المدنية في التعامل مع الأزمة بمنهج استراتيجي متكامل أدى إلى اختلال ميزان القوى لصالح العسكريين، مما يستدعي إعادة تقييم شامل للنهج المتبع في العملية التفاوضية مع التركيز على دعم وتعزيز قدرات القوى المدنية على بناء كتلة وطنية متماسكة قادرة على فرض واقع جديد ينهي الصراع المسلح ويؤسس لمرحلة انتقالية حقيقية في السودان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى