كوستي.. شلقامي
من على الشرفة
طاهر المعتصم
taherelmuatsim@gmail.com
قبل أقل من شهر سعدت بتلبية دعوة معهد جوته السودان بالقاهرة، لتدشين الطبعة الثانية من كتاب (كوستي) للدكتور نصر الدين شلقامي، علاقتي بشعر الشاعر الألماني جوته قديمة، وصلتي بالمعهد في الخرطوم تعود إلى سنوات، وصداقتي بالدكتور نصر الدين شلقامي عميقة، ومحبتي لمدينة (كوستي) معلومة، لذلك أصررت على حضور التدشين الذي ادارته الإعلامية البارعة تسنيم رابح، وأطرب الحضور نجم عقد الجلاد الصديق شريف شرحبيل، وسط حضور نوعي ازدحمت به القاعة حتى فاض في شوارع (الدقي) في تلك الأمسية القاهرية.
كتاب (كوستي) الذي يقع في 314 صفحة في صدارته الثانية بعد قرابة ربع قرن، هو تطوير لمقالات للكاتب في 1988 بصحيفة (السياسة) ردها الله وحيا مؤسسها خالد فرح والعاملين فيها، ينقسم الكتاب لأربعة فصول وبعض الكتابات عن المدينة والمراجع وصور وخرائط.
قدم الكاتب استقراء تاريخيًا للمدينة في التاريخ القديم وعبر عصور اليونان والرومان، وفي العصر النصراني، وفي فترة المهدية، وخلال الحكم الثنائي، وكوستي الحديثة، يزعم الكتاب إن اسم المدينة جاء من اسم التاجر اليوناني كوستي بابيس، وارفقت مبايعة قطعة أرض تبلغ مساحتها 1000 فدان للتاجر اليوناني من قبل حماد ود أم دودو في سنة 1900 ميلادية، مما يجعلها من أحدث المدن السودانية تأسيسًا.
موقعها على شاطئ النيل الأبيض، وتقاطع الطرق فيها جعلها من أهم الموانئ النهرية في بداية القرن الماضي، ورغم إن السلطات وقتها أطلقت عليها اسم (الجديد) وحظرت اسم (كوستي)، لكن الإرادة الشعبية تمسكت بالاسم القديم وأسقطت (الجديد)، يشير الكاتب أن المدينة لم تنشأ على أسس قبائلية أو عشائرية تتمسك بالأرض، بل توافدت إليها عدة هجرات قبلية، إضافة إلى الأجانب والعرب من أغاريق ومصريين وشوام للعمل في التجارة، خاصة بعد دخول السكك الحديدية في 1911، مما وفر للمدينة صفات حداثة المدن، ونسيج اجتماعي متفرد ومتماسك.
المراحل الثلاثة التي شهدت نمو المدينة: مرحلة إقامة جسر كوستي القديم الذي جعل الحركة التجارية تنساب إلى غرب السودان، وثاني المراحل نقل رئاسة هيئة النقل النهري إليها في العام 1951، وفي سبعينيات القرن الماضي نتيجة قيام مشاريع تنموية داخلها وبالقرب منها، مثال مصنع سكر كنانة، ومصنع سكر عسلاية، ومصنع أسمنت ربك.
أحداث مهمة قدم الكتاب استقصاء لها وشهادة شهود عيان، أولها أحداث عنبر جودة بعد استقلال السودان بحوالي شهر، التي راح ضحيتها حوالي 200 مزارع جراء الإجهاد والحرارة ونقص الأكسجين في مكان حبسهم، والحادثة الثانية (أحداث الجزيرة أبا) التي قصف فيها نظام جعفر نميري الجزيرة أبا في مارس 1970، وقد وثق الكتاب شهادة أبو القاسم محمد إبراهيم، عضو مجلس قيادة انقلاب مايو، وارفقت صور لعنبر جودة ولدخول جعفر نميري سرايا الإمام الهادي.
في رابع فصول الكتاب سلط الضوء على الجوانب الروحية والتعليم والحركة الوطنية، والحركة الأدبية والرياضة، وبدايات إيقاع (التم تم) مشبهًا إياه بحمى (الروك اند رول) في النصف الأول من القرن الماضي في أوروبا وأمريكا، وأشار إلى بداية إيقاع (التم تم) في العام 1932 على يدي (تومات كوستي).
وختم الفصول بفصل عن صورة للحياة الاجتماعية الثرة في كوستي مثل السيد محمد كريم عباس مفتش المركز، والمهندس عبدالله شداد، والمأمور أحمد مكي عبده والرشيد ميرغني حمزة، ومحمد داود الخليفة، وممن عملوا فيها القاضي عبدالعزيز شدو، والصحفي الراحل محمد الحسن أحمد، وعدد من الشخصيات التي برزت في تاريخ السودان.
أخلص إلى أن الكتاب توثيق مهم جدًا للمدينة التي تتوسط السودان، وأحداث جسام مرت بها وقربها، ويكتسب الكتاب أهميته في ظل الحرب المدمرة التي هجرت الملايين، منهم أجيال على مدى سنتي الحرب انقطعت صلتهم وفقدت ذاكرتهم روح السودان الممثلة في مدنه وقراه وحياته الاجتماعية.