رسالة إلى مصطفى سعيد
عبد الغني كرم الله
حر، وحر!! (أتدري لم خلق الموت)، من أجل الحرية المطلقة، من قيود الحياة، وأعرافها، وعلومها..
هل تمقت الطيب صالح، لأنه خلقك هكذا؟ وطلبت التخيير؟ من تسييره لك؟
خلقك، متوتر، غريب، ذكي، أم تصالحت مع قدرك، أم أنك لا تعرف الطيب صالحًا، أصلًا، وتقسم “مثلنا”، أو مثل بعضنا، بأنك خلقت عفوًا، أو صدفة، أو جدلًا ماديًا، ذكيًا، كامنة فيه قوانين تطور فطري، فكنت أنت، وكانت البُنى الفوقية “من ثقافة، وفن، ودين”، أم تفتق ذهنك، عن إله خلقك، أعثرت على أسمائه الحسنى؟ أم تخبطت في ضلال مبين؟ أأنت ملحد؟ خلقتك الصدف؟ أم لم تفكر في الأمر كالأشجار، واكتفيت بالرقص مع النسيم، نشوة الرقص مع نسيم الرؤى والضلال؟ آااه كم نفسي أن أحشر أنفي في حناياك، وأعرف حسك، وطريقة تفكيرك، وتصورك للإله…
أين مقابركم، حين قتلت جي موريس، أين دفنت؟ وأي معول حسى تراب الخيال على شعرها الأشقر؟ أم قبوركم كالذكريات؟ تدفن في قاع العقل الباطني؟ ولكن الذكريات قد تطفو؟ أهو بعث من موت؟ كعاذر؟
هل رأيت قارئ في حياتك، قارئ يضع عالمك، موسم الهجرة إلى الشمال، في صدره، وهو راقد في قريته، تحت ظل شجرة نيم ضخمة، ويراقبك، (أريتني)، ولو على سبيل الإيمان، أن هناك من يراقبك، ولا تراه، كالملائكة “بالنسبة لنا”، أو الإيقان بأن هناك حيوات خارج مدى حواسك، هل تعرف “عماد عركي، وجماع، أفنان، الشبلي”، أنهم يعرفونك تمامًا، يا لها من جذر، يعرفون حزنك في المحاكمة، ويعرفون سروالك وقميصك المتسخ بحقول ود حامد، ويعرفون مصير حسنة زوجتك، الذي أنت لا تعرفه، هل تعرف أن ود الريس قتلها؟ وأن الرواي، دوخته رائحتها، في مساء نبيل؟ مالكم كيف تحكمون يا مستر سعيد.. هل أنت “ملحد” في وجودنا؟ أخاف أن ترسم وتخط كتاب، في أننا “أساطير الأولين”… لا عليك، للحياة مكر، وهي فعلًا تستحق الإطراء، والذم، فلها ألف وجه، أنت لا تعرفني (كقارئ)، أنا أضغاث أحلام بالنسبة لك، بل بالنسبة لي، فأنا، مثلك لا أعرف نفسي، بل كل فجر أعرف جزءًا ساذجًا منها، فعلًا “أضغاث أحلام، لك، ولي”.
صديقي مصطفى..
يحزنني، أن أخبرك، أن حسنة بت محمود، قتلها ود الريس، وقتلته، والبركة فيكم، في زوجتك المخلصة، هل تصدق، بغتة ينتابني وسواس، أنت (الراوي)، هناك مكر في الكتابة، ولكن من حضر غيابك، غيرك، والفصل الأخير من الملحمة، وحتى النجدة، النجدة، من سمعها غيرك؟ أأنت الراوي؟
عزيزي مصطفى…
كنت أود مناقشتك، في علاقة “اللذة بالعذاب”، مثل فض بكارة، آلام ممزوجة بشبق، كأنها البرزخ، في عوالم الانفعالات الغامضة، يكاد يصعب التمييز، بين الألم واللذة، ثار خاطري هذا، وأنت تغرس الخنجر في صدر حين مورس، (تأمل معي في عرفنا الديني “ملاك الموت”، أنه فعل جمالي، يقوم به ملاك جميل)، وتدعك صدرها بصدرك، وهي تصرخ لك بوله، تعال معي، “لا تدعني وحدي”، فأحسست وأنا غارق في ثمالة القراءة الحقيقية، بـ مثل خوف متسلق الجبال الوعرى، “يشعر بكل خلايا جسده، من التوتر”، الإحساس الكامل بالجسد، وحين يتكئ في القمة، يصبح جسده كله، بكل غدده المعضلة والنائمة التي صحت من أجل الخلود، قد عاشت عرس “الحس الكامل”، أصحيح حسي هذا؟
إن الموت، والألم، والقتل، والرحيل، جزء من طقوس الحياة الخالدة، في الصور والجوهر، كلها مخاض أليم، لولادة جزلى، أيصدق تحليلي هذا، كقارئ، أم (القارئ، والشخوص الرواية)، بعيدة عن بعضها، بعد الثرى عن الثريا، ولا أرض مشتركة بيننا، كم تحيرني أنت، ولكن همسها وهي على شفاه الموت “لا تدعني وحدي”، ألا تعني خيار الرحيل، عبر كوة الموت، لعالم أنضر آخر، تشي به المقابر، التي تزخرف الكرة الأرضية، قرب الكنائس، وقرب القرى، والبكري، وحمد النيل، ومقابر اليهود تحت كوبري السجانة، ألا تحس معي بأن ذلك العالم، جديرة برؤيته الأعين الحديد، وإدراك أعرافه، وتقاليده، ولذا يحن له طلائع البشرية، بلا وجل، أعنى لغز وأحجية الموت؟ كأننا فيه نتحرر من سلطان الزمان والمكان؟ أليست هذه أعظم حرية؟ حتى الجاذبية الارضية، لا سلطان لها، فينا؟ آآآآه من لغز الموت.
ثم العزيزة، آن همند، أنت حكيت للراوي (وتقلص وجهها باللذة)، ولكن ما يهمني أنا “كقارئ”، هذا الوصف الصغير المهم بالنسبة لي، وهو قولك (وتألق وجهها، ولمعت عيناها، ببريق خاطف، واستطالت نظرتها، وكأنها تنظر إلى، فتراني رمزًا، ليس حقيقة)، تلك هي قمة النشوة، رؤية الناس كرموز، في منتهى اللذة الجنسية، والفكرية، (أن غيبت ذاتها، فلي بصر، يرى محاسنها في كل إنسان)، تلكم اللحيظة الصغيرة، يكون الرجل، والأنثى، (خالقين)، خرجا عن سطوة الزمان والمكان، فيدفق الرجل في الأنثى ماء الحياة، ويتشكل طفل في رحم المرأة، وتتشكل جنة في خلد المرأة، وفردوس في جسم الرجل، أتصدقني؟ أم للحقيقة ألف وجه، وهي لحظة تدق، وتدق (أقصد لحظة الذروة)، حتى تصير “لا زمن”، فناء في قلب الوقت القديم، براح للروح بلا قيد مكان، وسلسل زمان، ووتد خاطر، هذه اللحيظة (استغراق النشوة الجنسية)، هي هي (لحيظات الاحتضار)، واستلال الروح، من صدف الجسد، الموت/الميلاد، أيصدق كلامي هذا، مع عالم الآخر؟ عالم الأخيلة، والآمال؟ أم أنا أحمق من بعير، يا مستر سعيد، ولكن وجه “آن همند، وهي تراك، لغزًا، شبحًا”، يجعل الأمر مقبولًا، بنسبة ما أي قصيد (هذا العذراء حبلى، باشتداد الطلق تبلى)، سأظل مشدوها مع “تعال معي”، لا تتركني وحدي، ألا تشبه حديث جبريل مع النبي “لو تقدمت خطوة لاحترقت؟” حين وبخ بلطف “أفي هذا المقام يترك الخليل خليله؟ هذه الأفكار الدقيقة يصنعها الحس الصافي، أي “الحس من يستل الفكر والحيرة، أتعرف أبيقور؟ قال إن اللذة هي الحياة، إذن التجربة هي المعلم، اعتذر، لا أعرف كيف أخاطبك، وبأي طريق اقتفي لغتك، وما لغتك يا مصطفى؟ تم وصفك باللغة العربية، ولكن داخل الرواية، كيف أصل لك؟…
مستر مصطفى..
أتعرف رأي الناقد فيك؟ كلهم كذبة؟ تأويل خاطئ؟ إدوار سعيد؟ ورجاء النقاش؟ أأنت مريض بالتوحد؟ علاقتك بأمك؟ والغرب هي هي؟ حتى دومة ود حامد لم تتصالح معها؟ لا أكثر عليك، فالمقام مقام عزاء.
أم صرت تراه الآن؟ (كما يرى الشعراء والرسل أهل المقابر)، أحياء من نور، الموت لغز لنا، قد يكون الآن مرئي لك، قريب منك، وأنت ترى خالقك، كما نراه نحن بعد رفع برزخ الموت، ربما؟ وهنا اهنئك بموته، ورؤيته، ما أغرب أمورنا، كلها طلاسم، وألغاز، كالمرأة، أهي خالقة؟ وتوارت في ثوب أنوثتها العجيبة؟ وتركت لنا أحابيل الشرك بها؟ أم وهم ما أقول؟
ألهذا قتلت “خالقك”؟ تلكم النساء في لندن؟ بحث عن معنى حرية خفي، فيك؟ لا تريد أن تكون كالوتد؟ في مكان وزمان معين؟ حر، وحر؟
تقبل تحياتي، وشوقي، وأحيائي لك، كما أريد، فمجرد أن أفتح كتاب “الموسم”، يطل وجهك الوسيم الحزين، كما تطل شخوص أليس في بلاد العجائب، من العدم، ففي القراءة، وأنا اتصفح “الموسم”، أحييك بعشب خيالي، ولكن سؤالي” أين تكون حين أغلق الكتاب وأمضي لشأني؟ ومن عجب تنتظرني الحكاية في الصحفة التي تركتها فيها، ااااه ليت الحياة تنتظرنا، حين نغيب عنها، مثل حكايات الكتب، لأعدت أمي، قبل موتها، أم التحدي الأكبر، يجب أن ترى أمك بعد موتها، ذلكم تحدي الحياة الكبير، منذ خلقت “سلام عليكم أهل البقيع”، أم لا بداية للحياة ولا نهاية لها، مثل كتاب بورخيس، فحين تفتحه، لا تجد بداية، ولا نهاية، مهما حاولت الرجوع لأول صفحة، لا تصل، وكذا آخر صفحة.
إذن، يا مستر سعيد، كلنا في الحيرة سواء، والسلام عليكم، ورحمة الله، وبركاته.
عبد الغني كرم الله
جنوب الخرطوم
حي الأزهري
ملاحظة:
* رسالة إلى أحد أشهر أبطال حكايات الطيب صالح “مصطفى سعيد”، بطل موسم الهجرة إلى الشمال.