القصر.. المبنى المشيد فوق الدماء
الزين عثمان
الجمعة، 21 مارس 2025، أعلن الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة السودانية عن نجاح الجيش في استعادة السيطرة على مبنى القصر الجمهوري في الخرطوم، واصفًا القصر برمز سيادة وعزة وكرامة الشعب السوداني، معتبراً تحريره تتويجًا لنجاحات الجيش وانتصاراته في محور وسط الخرطوم.
حسنًا بالنسبة للكثيرين فإن استعادة القوات المسلحة للقصر الجمهوري والمباني حوله يمثل الاختراق العسكري الأكبر بعد سنتين من الحرب، فهو نصر لا يجب التقليل من قيمته بحسب ما صرح القيادي في تحالف صمود رئيس الحركة الشعبية التيار الثوري، ياسر عرمان، لكنه في المقابل يطرح عدة أسئلة: هل انتهت الحرب؟ الاحتفالات بالانتصار في القصر هل ستعيد صخب الحياة إلى بيوت الخرطوم وبيوت مدن السودان الأخرى؟ وبالطبع فإن تحرير القصر الجمهوري يعيد طرح السؤال حول تحرير الدم السوداني نفسه وتوقف نزيف الدم السوداني المراق منذ غابر السنين.
لعامين ظل المكان المعبر عن عزة وكرامة السودانيين بحسب بيان الجيش تحت سيطرة قوات الدعم السريع التي بسطتها عليه منذ صبيحة الخامس عشر من أبريل 2023. في المبنى القائم على مساحة حوالي 150 ألف متر مربع على شاطئ النيل بالخرطوم، ارتفع صوت السودانيين صبيحة الأول من يناير 1956 مرددًا “هذه الأرض لنا إن دعا داعي الفداء لم نخن نتحدى الموت بأغلى ثمن”.
تبدو فكرة تحدي الموت هي الفكرة الأكثر بروزًا وحضورًا حين يتعلق الأمر بالقصر الجمهوري في الخرطوم، فعند ذات المكان قبل حوالي 140 عامًا هتف الأنصار بنشوة ” قتل غردون قطع رأس الكفر”. كان موت الجنرال الإنجليزي في العام 1885 إيذانًا بانتهاء حقبة الحكم التركي المصري للسودان، وإعلان انطلاق حقبة المهدية التي قررت نقل رئاسة السلطة من الخرطوم إلى أمدرمان بقعة المهدي المباركة.
بدا رأس الجنرال المعلق فوق حراب الأنصار ساعتها كأنه المقدمة لما سيأتي لاحقًا. في القرن التاسع عشر عبر الجنود النهر مرة أخرى بقيادة الجنرال الإنجليزي كتشنر الذي هزم الأنصار ووضع قواعد البناء لسودان الاستعمار الإنجليزي المصري، وقرر الاستفادة من الأساس الحجري الموجود وبناء قصر الحكم في ذات المكان. مرة أخرى ينهض البناء على أشلاء عشرات الآلاف من السودانيين سقطوا في معركة الدفاع عن بلادهم في معركة كرري.
أعيد بناء قصر الحكم في العام 1903، نهض المبنى الجديد على أشلاء عشرات الآلاف من السودانيين سقطوا في معارك مواجهة الغزاة وهم يدافعون عن بلادهم لكن ذلك لم يمنعهم من ترديد المسمى الجديد “قصر الحاكم العام” الذي يعلوه العلمان البريطاني والمصري.
في فاتحة يناير من العام 1956 رفع الزعيم الأزهري علم استقلال السودان بمعية محمد أحمد المحجوب. يومها نهضت دولة السودان الحرة المستقلة وصعد معها الاسم “القصر وشارع القصر”. وبالطبع للشعب الهتاف إلى القصر حتى النصر. وصول الشعب إلى باحة القصر كانت نتيجته سقوط ثلاثة أنظمة على التوالي، وهو الأمر الذي يعبر أيضًا عن حالة من التباين بين سكان القصر من الحاكمين وبين المحكومين.
أثار تسجيل فيديو لقائد مجموعة “البراؤون” المرتبطة بالنظام المخلوع المصباح أبو زيد وهو يرفع العلم في القصر الجمهوري في السودان بعد أن تم استلامه بواسطة الجيش جدلًا كثيفًا أعاد للأذهان سؤال حرب من؟ في إشارة للنزاع بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ عامين. كما أن صعود قائد المجموعة المرتبطة بالنظام السابق التي يصفها البعض بأنها ميليشيا يعيد للأذهان دماء السودانيين التي سالت طوال الثلاثين عامًا الماضية بفعل قرارات من كانوا داخل القصر، كما أن الحرب الأخيرة ما كان لها أن تشتعل لولا مساهمة النظام السابق في تكوين ميليشيا الدعم السريع التي يرفع لواء محاربتها الآن.
ربما لم تنته إثارة مشاهد القصر بمشهد قائد مجموعة البراؤون، فثمة مشهد آخر توقف عنده الناس وهو مشهد شباب الكتائب الثورية “غاضبون بلا حدود” من المشاركين في المعركة مع الجيش وهم يحملون أعلامهم أمام بوابة القصر المحطمة، للمفارقة كانت هي نفسها البوابة التي لطالما حاول غاضبون اقتحامها في زمن سابق تسبقهم هتافات يسقط حكم العسكر. ربما انطبق عليهم ساعتها المثل “الفرع الذي أنكرته الشجرة عاد إليها فأسًا”، وهو الأمر الذي يطرح سؤاله حول عدد من سقطوا من المجموعة نفسها وهم يقاومون قيادات الانقلاب أمام ذات القصر.
منذ بدء العملية العسكرية في وسط الخرطوم لا حديث غير ذلك المتعلق بامتلاء المكان بالدماء والأشلاء وبالجثث التي عجز المتحاربون عن حملها معهم، لا جديد هو غير استمرار استخدام لغة “الجغم والبل” حتى دون أن تتوفر إحصائية دقيقة لمن سقطوا هناك من البشر. الكل يحاول تعظيم انتصاره بزيادة عدد الموتى.
استعاد الجيش رمز السيادة السودانية بعد عامين من الحرب، حرب سقط فيها ما يزيد عن 150 ألف سوداني مع ملايين النازحين واللاجئين، توقفت فيها الحياة وانهارت فيها البنية التحتية بما فيها المباني السيادية نفسها. جعلت العالم يصف ما يحدث في السودان بأنه الكارثة الإنسانية الأسواء في العالم، كان كل ذلك نتيجة لحرب اشتعلت بسبب خلافات بين من كانوا في القصر يتقاسمون كراسي السلطة فيه.
عاد القصر وليتهم في إحدى حجراته يجدون وصفة لمعالجة خلافات الراغبين في الجلوس بين ردهاته وفي كراسيه، ليتهم يجدون وصفة تفتح لنا شوارع العودة إلى بيوتنا دون أن نضطر لمغادرتها مرة أخرى في انتظار من يحرر القصر. ليتهم يحرروا دماءنا من أن تراق من جديد.