مرئيات أبوبكر الشيخ:

 

 السر السيد

تمهيد:

وأنا أُشاهد مرئيات المخرج والممثل أبوبكر الشيخ، في المسرح والتلفزيون شدّ انتباهي ذلك الكم الكبير من المرئيات التي حضر فيها مخرجًا وممثلًا، ومنتجًا، ولعلّ مما قد يفسر هذا الشغف وهذه الطاقة الجامحة في الحضور وكأن مبدعنا في سباق مع الزمن – لعل ما يفسرهما – إضافة لمواهبه الخاصة وطموحه الشخصي، هو ذلك التحوّل الذي طرأ على الوسط الفني السوداني عمومًا، والوسط المنتج لفنون التمثيل بصفة خاصة، (مسرح/دراما تلفزيونية وإذاعية وسينما)، والتحوّل الذي أعنيه هو دخول المسرح والدراما مجال ما يعرف “بريادة الأعمال”، التي من بعض ما تعنيه، (حضور فكرة الابتكار في تصميم مشروع ما بهدف الربح مع توقع المخاطر المحتملة)، إذ أنه ومنذ سنوات، خاصة السنوات التي بدأ يتبلور فيها حضور أبوبكر ومعاصريه، في الفترة من النصف الثاني من التسعينيات وإلى الآن، بدأ وكأن الوسط المسرحي، يعيش وضعًا جديدًا أهم ملامحه، الانتقال بفنون المسرح والدراما من كونها أداة طليعية في التنوير والترفيه والتغيير، إلى مشروع اقتصادي يستهدف “الربح” مع وجود المخاطرة وكذلك الإبقاء على دوره الطليعي الذي اتسم به تاريخيًا، وهنا لا يفوتنا أن نشير إلى أن مسألة استهداف “الربح” لم تكن غائبة تمامًا في مسيرة العمل المسرحي والدرامي، وإن كان الغالب هو الجانب الخيري والتعليمي للمسرح، كما في تجارب أكثرية من الفرق المسرحية، والخدمي كما في عروض المسرح الذي تنتجه الدولة، وهنا يمكن الإشارة إلى تجارب الأستاذ ميسرة السراج والفاضل سعيد وفرقة الأصدقاء ومجموعة عماد الدين إبراهيم وغيرها، مع ملاحظة أن النقلة المختلفة في هذا التحول قد ارتبطت بالمخرج والممثل الكبير مكي سنادة عندما أقدم في أواخر السبعينيات على إخراج مسرحية “الدهبابية”، وألحق بها مسرحيتي “ريرا” و”جواهر”، تلك التجربة التي أطلق عليها بعض النقاد مصطلح (المسرح التجاري)، في إشارة إلى استهجانها، لتمر الأيام ويكتشف المسرحيون أنها كانت مبادرة طليعية وينسجون على منوالها ليستبدل بعدها مصطلح “المسرح التجاري”، بمصطلح “المسرح الخاص”، منذ مطلع الثمانينيات وإلى الآن، ليصبح ما قام به مكى سنادة، إضافة إلى تحرير العرض المسرحي السائد من بعض “تابوهاته”، إضفاء المشروعية، في أن يكون المسرح وتكون الدراما مجالًا “للربح” وسبل كسب العيش.

هذا، عن ما مهده المسرح لأبوبكر والمعاصرين له، أما ما مهدته الدراما التلفزيونية فيتمثّل في صيغة (المنتج المنفذ)، التي أبدعها التلفزيون الحكومي وأوكل فيها بدعم كامل منه مهمة إنتاج الأعمال الدرامية للقطاع الخاص ممثلًا في  بعض شركات الإنتاج الإعلامي وبعض الفرق المسرحية وبعض الأفراد، وذلك منذ النصف الثاني من التسعينيات وحتى العام 2004.

أبوبكر ومعاصروه:

ازدادت وتيرة هذا التحوّل، في السنوات التي تبلور فيها حضور أبوبكر ومعاصريه، لمجمل أسباب اقتصادية، واجتماعية، وسياسية، وثقافية، تأثر بها بالضرورة صنّاع المسرح والدراما، فعلى المستوى الاقتصادى مثلًا، حدثت زيادة كبيرة في معدلات الفقر، واتسعت نسبة البطالة بين الخريجين وهم كثر بحكم التوسع في التعليم العالي، وتراجعت القيمة الاقتصادية والرمزية للوظيفة الحكومية، وعلى المستوى الاجتماعي، تحديدًا في الخارطة السكانية، شكّلت فئة الشباب الغالبية من مجمل السكان، كما تراجعت سلطة الأسرة، فلم تعد صاحبة القرار الأخير في تحديد مسار منسوبيها، وعلى المستوى السياسي، ولأسباب كونية ومحلية تصاعدت الحساسية تجاه الحقوق الشخصية والعامة، في إشارة إلى تنامي الوعي بالذات والاستقلالية، وما يستتبع هذا بالضرورة من اكتشاف للمواهب والمهارات الخاصة ثم العمل على تنميتها وتسويقها، وعلى المستوى الثقافي، انتشار وسائط التواصل الاجتماعي، زهيدة التكلفة، واسعة الحرية، سريعة الانتشار وقوية التأثير، التي مثّلت قوة مضافة للمتمكنين منها، وكذلك التحوّل الذي طرأ على الفنون نفسها خاصة المسرح والدراما، فهي الآن مدمجة في موضوعات التنمية بمفهومها الشامل، وهي الآن وفي كثير من الدول ضمن مكونات الاقتصاد القومي، وهي الآن تمثل مجالًا من مجالات الاستثمار خاصة بعد ظهور ما يعرف بـ(الصناعات الإبداعية)، بل هي الآن باتت في مرمى  الاقتصاد السياسي.

كل هذه التحولات وغيرها، من بعض ما أدت إليه، هي أنها جعلت “الكل”  يتحسس مواطن قوته في مواهبه الفردية، والكل الذي أعنيه هنا هو الوسط المسرحي والدرامي، الذي لم يعد كما كان في السابق، فالمخرج أبوبكر ومعاصروه، يديرون مواهبهم الفردية عبر تخطيط يراهن على سوق العمل، فبعضهم تخلى عن التمثيل وهو بارع فيه واتجه إلى الإخراج، وبعضهم تخلى عن فرقته وأسس مشروعه الخاص، وبعضهم جمع بين الممثل والمنتج، وبعضهم جمع بين المخرج والمنتج، وبعضهم دخل سوق العمل بامتلاك أدوات الإنتاج كمعدات التصوير والمونتاج، وبعضهم أسس قناته الخاصة في اليوتيوب، وهكذا فالكل حدد مجاله بما يتيح له الدخول في سوق العمل خاصة وأن الوسط المسرحي والدرامي يعيش الآن تنافسًا محمومًا بسبب كثرة المشتغلين فيه، في مختلف مهنه. هذا التحوّل أو هذا الوعي الجديد، الذي ملمحه الأساس الرهان على الميزات الفردية، حوّل المجموعات والفرق المسرحية إلى أن تكون أقرب إلى اسم العمل منها إلى المجموعة أو الفرق المسرحية، وأسس لاختلاف في الأجور بين مخرج ومخرج، وبين كاتب وكاتب، وبين ممثل وممثل، وبين تقني وتقني لا على أساس الريادة والأسبقية والقدرات فقط، وإنما على أساس الموقع “النجومية”، كما أن هذا التحوّل دعم نفسه بالتشبيك مع مؤسسات حكومية وأهلية ترى في المسرح والدراما وسيطًا للترويج عن أهدافها  أو للدعاية لها، فعلى سبيل المثال، أسماء مثل جمال عبدالرحمن، وأبوبكر فيصل، وربيع يوسف، ومختار بخيت، وعبدالله عبدالسلام “فضيل”، وأبوبكر الشيخ، يمكن اعتبارهم النموذج الأمثل لهذا التحوّل، وهذا الوعي الجديد، فقد عبّروا عن مواهبهم الخاصة وبمخاطرة أن يكون المسرح والدراما التلفزيونية مجالًا للربح ووسيلة لكسب العيش مع دورهما في التنوير كل حسب رؤيته.

أما المخرج والممثل أبوبكر الشيخ موضوع مقالتنا الذي تخرج في كلية الموسيقى والدراما-جامعة السودان في  العام  2001 تخصص تمثيل، وحصل على درجة الماجستير في العام 2008  وعلى الدكتوراه في العام 2019، فقد كانت بدايات دخوله الوسط مع الدورات المدرسية ومركز شباب أم درمان، ثم التحاقه بالمعهد العالي للموسيقى والمسرح في العام 1997، ومن الفرق التي شارك فيها ممثلًا نبض، والهيلاهوب والهمبريب والجو الرطب وغيرها وأخيرًا الفرقة القومية للتمثيل في المسرح القومي.

أبوبكر.. موقعه ومرئياته:

يأتي اختلاف موقع أبوبكر  في أنه راهن على الانتشار ممثلًا ومخرجًا ومنتجًا، بكل ما يمكن أن يحققه الانتشار من نجومية ومن تراكم  للخبرات، فقد شارك في العديد من الأعمال ممثلًا ومخرجًا ومنتجًا ومع مختلف الأجيال، فقد شارك ممثلًا مع الفاضل سعيد ومع المخرجين فاروق سليمان، والفاتح البدوي، وقاسم أبوزيد، وعبادي محجوب، وحسن كدسة، وأحمد رضا دهيب وغيرهم، كما تعامل مع عشرات الكتاب في المسرح والتلفزيون منهم مصطفى أحمد الخليفة، والرشيد عبداللطيف، وأنس عبدالمحمود، وعبدالناصر الطائف وقصي السماني ومنى سلمان، كما أشرك مئات الممثلين في عروضه التي أخرجها للمسرح والتلفزيون.. هذا الانتشار المنظم الذي يعبر عن سياسات أسست لوجوده المختلف في الوسط، من بعض ما حققته له ذلك الحضور الفاعل وسط أقرانه ومجايليه، الذي لا يخلو من محبة وتقدير. نستطيع أن نرصد له عشرات المرئيات في المسرح والتلفزيون التي حضر فيها ممثلًا، ومخرجًا، ومنتجًا، مع اعترافنا أنها لم تكن على سوية واحدة من حيث الجودة الفنية والفكرية ولكنها في النهاية تمثل تجربة أو خطوة في الطريق الذي اختار أن يمشي فيه ليصل إلى موقعه المختلف الآن كواحد من أكثر فناني المسرح والدراما الذين ساهموا في هذا التحوّل وهذا الوعي الجديد.

لا يمكن الحديث عن أبوبكر الممثل دون الإشارة إلى أنه شارك مثلًا في أكثر من 15 عرضًا مسرحيًا تنوّعت بين المسرحيات الطويلة  “الجماهيرية”، و”القصيرة”، و”المونودراما”، نذكر منها مسرحيات، “عبدالله يحدث نفسه”، و”الأسد والجوهرة”، و”طائر الصدى المفقود”، و”رغوة صابون”، و”ماء وماء”، وإلى أنه أخرج للمسرح ما يتجاوز العشرة عروض مسرحية، نذكر منها، “وجهنا”، و”عرض غير قابل للنقد”، و”نريد شعبا”، و”رئيس نزيه جدًا”، و”حكومة في مزاد”، و”النظام يريد”. أما في الدراما التلفزيونية فقد أخرج عدد 7 مسلسلات نذكر منها، “جنة إبليس”، و”وتر حساس”، و”حوش ود النور”، و”3 في حبل”، و”ضبط المصنع” وأخيرًا مسلسل (أقنعة الموت) الذي يعرض حاليًا. أما في السلسلات التي هي من الكثرة بحيث يصعب حصرها في مقال كهذا، فنذكر “نشرة نسوان”، و”حريم سيتي”، و”يوميات فضيل”، و”يوميات كبسور”، والسلسلة الأشهر (حكايات سودانية). في الأفلام أخرج ما يتجاوز الـ 10 أفلام نذكر منها، “ريش الطاؤوس”، و”فعل ماض ناقص”، و”ثلاثية قلوب بيضاء”، و”المنطقة الصناعية”، و”برتوكول الغرام”. في التمثيل للتلفزيون شارك مبدعنا في أكثر من عشرين عرضًا تلفزيونيًا من سلسلة إلى مسلسل إلى فيلم، في السلسلات  نذكر “سيد جرسة”، “أما حكاية”، “قصص”، و”عجايب” مع الأستاذ الفاضل سعيد. وفي المسلسلات نذكر “آخر قطار”، “نمر من ورق”، “مهمة خاصة جدًا”، “أقمار الضواحي”، “وضاعت الشواطي”. وفي الأفلام نذكر “أجنحة الرحمة”، “قرار القاضي”، “نائب الدائرة”، “الاختيار”، و”قابيل يقتل مرتين”. أما في الإنتاج فقد أنتج  سلسلات “كبسور أفندي”، “نشرة نسوان”، “حريم سيتي” ج ١، كما كان المنتج المنفذ لمسلسل (أقنعة الموت).

يكتمل هذا المقال، بإشارات ثلاث هي:

 الإشارة الأولى:

وهي عن عرض مسرحية “النظام يريد”، وحولها أقول: يحسب للمسرحية أنها استعادت جمهور المسرح بعد غياب استمر لسنوات، ويحسب لها كذلك وفي حالة نادرة أنها كانت حدثًا جعل من دار العرض المسرحي، معلمًا سياحيًا  يرتاده الأجانب خاصة العرب، وقد يعود هذا لملامستها لموضوع تتعاطى معه الغالبية هو موضوع “ثورات الربيع العربي”، فقد عكس العرض عبر أساليب إخراجية مبهرة الكثير من التظاهرات والهتافات والشعارات التي عبّرت بها تلك الثورات عن نفسها وكيف لا؟ وعنوان المسرحية ما هو إلا تعديل لهتاف (الشعب يريد إسقاط النظام).

الإشارة الثانية:

وهي عن سلسلة (حكايات سودانية)، وحولها أقول: إنها وعبر 120 حلقة وفي ستة مواسم، تبدى التميّز فيها في التنوع في الموضوعات، والتنوع في الكُتّاب، والتنوع في أماكن التصوير، وفي الاستعانة بالخبرات العربية في مجال التصوير، وفي العدد الكبير لفريق التمثيل فقد شارك فيها حوالي الـ 600 ممثل وممثلة ومن مختلف ولايات السودان. إن هذه السلسلة، وبتفاوت ما قدمته من حيث مستويات الجودة فنيًا ومضمونيًا إلا أنها أرست الكثير من التقاليد التي تحتاجها صناعة الدراما، فقدمت لنا منتجًا ومديرًا للإنتاج يتوفّر على رؤية في التخطيط والإدارة والمخاطرة، هو الفنان جمال عبدالرحمن عبر شركته وشراكاته، وقدمت لنا أبوبكر ووضعته في مسار أن يكون مخرجًا مرموقًا، وهو الذي أخرج معظم حلقات السلسلة، بينما أخرج السوري عروة محمد 15 حلقة والمخرج قاسم أبوزيد حلقة واحدة.

أخيرًا أقول: إن أكثر ما يميّز المخرج أبوبكر الشيخ بين أبناء جيله الذين يبادرون في فضاء هذا التحول وهذا الوعي الجديد، هو اتساع علاقاته، وتمدد تشبيكاته، فهو يحظى بقبول كبير في وسط فني يضّج بالاختلاف والصراعات الشخصية، وبسبب هذا القبول وهذا الرضا شبه العام، استطاع أن يدير وعيه القاصد في التعبير عن هويته الإبداعية ويحوز موقعه الذي نراه الآن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى