عيد السودانيين.. حرب تطغى على الأفراح
حرب ونزوح، وأزمة اقتصادية، وجثث مكدسة في طرقات الخرطوم، وحياة تبحث عن استعادة الحياة. هكذا يستقبل السودانيون عيدهم الخامس في ظل الحرب وهم يرددون:
إلى متى؟
الزين عثمان
ترتفع أصوات التكبير في المساجد، يرتدي الأطفال الجديد من الملابس، يحملون ألعابهم، يردد الناس عباراتهم المحفوظة “كل سنة وأنتم بخير”، ويكملون تعود الأحلام، حلم بلاد كاملة صار أن تعود هي للخير والسلام، أن تعود، يامها كما كانت وأن تعود أعيادها .
مرة أخرى يدق العيد على أبواب السودانيين المغلقة بالموت والرصاص والحرب، وقد يكتب بالدم على باب بيت غادره أهله مجبرين “حضرنا ولم نجدكم”، ستة أعوام للوراء صار فيها عيد السودانيين مثل نخبتهم “لعنة هذه البلاد” صار لحظة لاجترار الأحزان والمآسي أكثر منه ساعة فرح.
عيد خامس في سودان الحرب. ولا أحد يمكنه أن يردد على مسامعك حكمة الجدات “لا تحزن العيد ح يلعنك”! وهل من لعنة أكثر من أن نغيب نحن وبلادنا بفعل الحرب؟ وهل من ثمة فرحة وألعاب الصغار في حقيقتها سلاح يتلاعب بأرواحنا؟
عيد خامس تغيب فيه المقولة “الطريق نحو العيد أجمل من العيد”. عيد ستغيب عنه جحافل من يغادرون الخرطوم لقضاء العيد قريبًا من دفء الأهل والعشيرة، وفي ظل سواد الموت بالطبع سيغيب بياض لباس رجال المرور في رحلة التفويج السنوي، يومها كان يبتسم لخطو السودانيين التراب، يضحك لهم الإسفلت، تتداخل أبواق سياراتهم الخاصة مع أصوات أبواق البصات السفرية، والكل في حالة حبور وسرور.
في الإجابة عن السؤال المعتاد “بأي حال عدت يا عيد؟ ” تجيب سيدة خمسينية بما تبقى من قدرتها: “عاد بأملنا في أن ينعدل الحال”. ومن ثم تنخرط مع جارتها في ونسة حميمة عن الأوضاع وعن الحال المايل، ومن ثم تختم: “العيد ليس لنا نحن الذين نفتقد نعمة السلام، لا عيد في سودان الحرب”.
عيد آخر وما تزال بيوت الخرطوم مغلقة الأبواب، مسكونة بالخوف، العاصمة التي استطاع الجيش أن يسيطر على معظمها ما تزال تنادي على الحياة، شوارعها محاطة ومكدسة بالجثث، من بقي من سكانها معلقين على مشانق الاتهامات بالانتماء لطرفي الحرب، الطريق نحو مسجدها الكبير لا يزال ساحة حرب، وبالطبع لا معايدة ينتظرها رئيس مجلس السيادة في قصر الحكم.
أن تحصل على رغيف الخبز في مخبز يعمل فأنت تحتاج أن تقطع المسافة بين “الكلاكلة” والقوز سيرًا على الأقدام. يقول مواطن: “نعم عادت الحياة بدخول الجيش لكنها لم تعد، الأمر أشبه بالسير في حقل مليء بالألغام وبالطبع بمخلفات الحرب”. يكمل الرجل: “نحن الآن في معركة استرداد الحياة، وبعدها يمكنك التفكير في ترف الفرح بمناسبة حتى وإن كانت العيد”.
في يوم العيد تظل حكاية الحرب وتداعياتها هي الأكثر حضورًا في تفاصيل السودانيين الذين سيفطر بعضهم الأحد، بينما ينتظر الملايين منهم يوم الاثنين، النازح على دين البلاد التي تستضيفه، وكأن انقسامات الحرب ترفض أن تفك وثاقها عن أهل سودان ما بعد الخامس عشر من أبريل.
حالة من الوجوم يستقبل بها السودانيون عيد الفطر، فهم لا يزالون تحت تأثير الحرب التي تؤثر في المقابل على حركة التجارة بيعًا وشراًء، كما أن حركة الأسواق نفسها ترتبط بمعدل قربها وبعدها من مسارح العمليات، الحركة في مدن مثل عطبرة وشندي والقضارف وكسلا وبورتسودان بدأت أكثر انسيابية منها في مدن أخرى، وهو عامل قد يبدو معززًا لفرضية الانقسام نفسها على هدى الحرب وإن كانت هذه المدن تأثرت بارتفاع الأسعار، وبمعضلة عدم توفر “الكاش” في ظل تذبذب شبكات الاتصال والخدمات البنكية الإلكترونية مقرونًا كل ذلك بفقدان الكثيرين لوظائفهم وعدم تلقي بعض العاملين في القطاع الحكومي لرواتبهم منذ فترة. أسواق ما قبل العيد في كسادها تطرح استفهامات لا تنتهي إلا بإجابة واحدة مفادها “الحرب” يا عزيزي. الكساد الذي ستكون له آثار على سلع ومنتجات أخرى ارتبطت بعيد السودانيين.
يمكنك أن تقرأ ملامح عيد الحرب في صينية خبيز قرر من يصنعونها أن يرسمون عليها عبارة “الخرطوم حرة”، وهو ما يعزز من فرضية تأثيرات الحرب على العيد السوداني هذه المرة. لكن ما تظنه خافٍ تكشف عنه إحدى السيدات في إجابتها عن إمكانية تجهيز مستلزمات العيد وعلى رأسها “الخبيز” حين تقول إن الميزانية لا تسمح بهذا الترف، وسيمر العيد دون خبيز. ولكنها تستدرك سريعًا: “حالنا هنا أفضل من حال كثيرين يفتقدون الخبز ناهيك عن الكعك”. ما لم تقله السيدة إن السؤال عن مصير كعك الخبيز في بلاد تشكو التكايا فيها غياب البليلة سؤال ترف وبلا إجابة.
لكن شابة عادت لمدينتها بعد سيطرة الجيش تبدو سعيدة وتقول انه بعد النزوح والتعب تحس أن الأوضاع أفضل وأنها ستعيش العيد وفرحته، وتردف: “العيد هو البيت وبقية التفاصيل يمكن استعادتها تباعًا، العيد الإحساس بالسلام، نعم قد يكون السلام ناقص الآن لكنه في كل الأحوال أفضل من الحرب، أنا هذه المرة يمكنني أن أردد أمنيتي القديمة تعود الأيام بالصحة والسلامة، وهو ما لم أستطعه طوال أعياد النزوح”.
من مكان نزوحه يقول شاب: “نحنا عيدنا ما الليلة فلم تثبت الرؤية بعد. والنازح على دين أهل البلاد التي تستضيفه. وحتى يوم غدٍ قد لا يمر فوقنا العيد، وطن وكل شيء ما خلا السودان ناقص لا عيد والسودان مكسور الخاطر، لا فرحة في بلاد يقسمها حزن الحرب والموت. ولكن أكيد يوم باكر ببقي أخير، وستعود أيام السودانيين، وسيستجيب الله لدعواتهم يوم العيد”.
ثمة أعياد سيصنعها السودانيون في مهاجرهم في دول لجوءهم، سيأتونك بتكبيراتهم وبمقالدتهم لبعضهم، وربما في سيلفي جلابية وتوب مكتوبعليهم “نحن هاهنا باقون وللحلم بقية”.