“الدبيبات”… حين تهرب المدن من ساكنيها 

 

أفق جديد

 

في ليلٍ بلا قمر، وعلى طريقٍ غمرته خطى الهاربين من الموت، كانت “أمل موسى” تمسك بيد طفلها وتضمي صامتة، خلفها، تركت الدار خاوية، وبقيت الذكريات معلقة على جدران الدخان. 

يلوح الأمل في مقدمة القافلة، بقدر ما تلوح خيمة مهترئة أو ظل شجرة مكسورة الجذع.

الدبيبات لم تعد مدينة، بل صدى وجع يردده الفارّون منها، وصورة لحرب جعلت من المدنيين هدفا، ومن القرى محارق، ومن الخبز حلمًا بعيد المنال. 

هكذا تبدأ الحكايات حين تصمت البنادق قليلاً، ويتكلم من بقي على قيد الألم.

“أصابنا التعب بسبب المشي الطويل والجوع”، بهذه الكلمات الموجعة افتتحت المواطنة “أمل موسى” روايتها لـ”أفق جديد”، وهي واحدة من آلاف الفارين من مدينة “الدبيبات” التي تحولت إلى ساحة قتال عنيف بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع”، واضطرت أسرتها للنزوح إلى مدينة الأبيض، عاصمة ولاية شمال كردفان.

تعيش أمل في خيمة متهالكة مع زوجها وأطفالها الخمسة، محاطة بالقلق والتساؤلات: “ماذا بعد هذه الخيمة؟ وإلى أين ننزح مرة أخرى؟”. وتضيف بحزن: “حياتنا أصبحت في مهب الريح، نبحث عن الطعام والعلاج وسط الخراب”.

منذ مطلع مايو، شهدت “الدبيبات” و”الحمادي” والمناطق المجاورة تصاعدًا في وتيرة الاشتباكات، ما أدى إلى نزوح جماعي لمئات الأسر. وتسببت الحرب في انهيار كامل للخدمات الأساسية كالكهرباء والمياه والاتصالات، بالإضافة إلى انعدام الغذاء والدواء.

ورغم استعادة قوات الدعم السريع للمدينة بعد معارك عنيفة، فإن ذلك لم يغير من واقع المدنيين، بل زاد من حدّة الخوف والانهيار الإنساني.

 وتهدف العمليات العسكرية في كردفان إلى ربط الشمال بالجنوب والتقدم نحو دارفور، ما يزيد من مخاوف السكان المدنيين بشأن اتساع رقعة الحرب.

الصحفي السوداني المقيم في باريس، محمد الأسباط، قال إن أفراد أسرته نجوا بعد رحلة نزوح محفوفة بالمخاطر من الدبيبات إلى الأبيض، بعد انقطاع أخبارهم لشهر كامل.

من جانبه، تحدث المواطن عمر الأمين عن تدهور الأوضاع الأمنية والإنسانية في المنطقة، وانتشار الأوبئة بين النازحين، لا سيما الأطفال، في ظل غياب أي خدمات طبية.

 وأضاف في حديثه لأفق جديد: “حياتنا بائسة، وانتشرت جرائم السطو والسرقة والاعتداءات”.

أما محمد عبد الوهاب، يشير إلى انقطاع الكهرباء الذي فاقم الأزمة، قائلاً: “عدنا لاستخدام المرحاكة لطحن الذرة، والأعشاب للعلاج”. 

وأكد في حديثه لـ”أفق جديد” انتشار الملاريا وحمى الضنك، بالإضافة إلى التهابات تنفسية حادة بين الأطفال.

وفي ظل غياب الرعاية الصحية، تحولت المراكز الطبية إلى أهداف عسكرية، وخرجت المستشفيات عن الخدمة بفعل الانتهاكات التي طالتها من قبل القوات المتصارعة.

وفي يونيو الجاري، أعلنت منظمة الهجرة الدولية نزوح أكثر من 1800 أسرة من “الدبيبات”، إضافة إلى 2700 أسرة من “الخوي” بولاية غرب كردفان، بسبب المعارك العنيفة. وتوزعت هذه الأسر على محليات مختلفة، أبرزها “القوز” و”أبو زبد” و”شيكان”، فيما يواجه النازحون أوضاعًا إنسانية صعبة دون أي استجابة كافية.

يحذر مراقبون من تفاقم الأوضاع في المناطق المتأثرة، في ظل استمرار موجات النزوح واستهداف المدنيين والبنية التحتية. 

وتؤكد الأمم المتحدة أن السودان يواجه “واحدة من أسوأ أزمات النزوح في العالم”، ويتجه نحو “أسوأ أزمة جوع في العالم”، حيث يحتاج أكثر من 30 مليون شخص إلى مساعدات إنسانية هذا العام.

ومع استمرار الحرب التي اندلعت في أبريل 2023، تُقدر الأمم المتحدة والسلطات المحلية عدد القتلى بأكثر من 20 ألفًا، فيما تشير تقديرات مستقلة إلى أن العدد قد يصل إلى 130 ألفًا. أما النازحون واللاجئون، فقد تجاوز عددهم 15 مليونًا.

في ظل صمت العالم، يواصل أهل “الدبيبات” نزوحهم على دروبٍ حارقة، يحملون أطفالهم على الأكتاف وأحزانهم في قلوبهم، وكل خيمة جديدة تعني هروبًا من موت مؤجل لا أكثر.

 أما الوطن، فغاب عن النظر، وعلق بين ركام المعارك ومخيمات الإنتظار 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى