من سقوط الخرطوم إلى استعادتها: دروس الماضي ورهانات المستقبل (2)
محمد عمر شمينا
إعلان رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، في السادس والعشرين من مارس، عن تحرير الخرطوم بالكامل من التمرد من داخل القصر الجمهوري، يمثل لحظة فارقة في مسار الحرب التي استمرت لما يقارب 23 شهرًا. لأول مرة منذ خروجه من القيادة العامة في أغسطس 2023، عاد البرهان إلى قلب العاصمة، معلنًا أن الخرطوم أصبحت خالية من التمرد. هذا الإعلان يحمل في طياته أكثر من مجرد انتصار عسكري، بل يعيد فتح أسئلة جوهرية حول مصير الدولة السودانية، وشكل السلطة في المرحلة القادمة، ومدى إمكانية أن يكون هذا التحرير خطوة نحو السلام، أم أنه مجرد مرحلة جديدة في صراع طويل لم ينتهِ بعد.
تحرير العاصمة، رغم كونه تحولًا استراتيجيًا، لا يعني أن الحرب قد وضعت أوزارها، فالصراع في السودان ليس مجرد مواجهة بين الجيش وقوات الدعم السريع، بل هو تعبير عن أزمة عميقة في بنية الدولة السودانية، حيث تتشابك العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية في إنتاج نزاعات متكررة. صحيح أن السيطرة على الخرطوم تعني استعادة الجيش للمركز السياسي للبلاد، لكنها لا تعني بالضرورة استعادة الاستقرار، بل تفتح الباب أمام جولة جديدة من التحديات، من بينها إعادة فرض سيطرة الدولة على بقية المناطق، ومعالجة آثار الحرب على المدنيين، واستيعاب القوى المختلفة في أي تسوية سياسية محتملة.
يأتي تحرير الخرطوم في ظل وضع إقليمي معقد، حيث لعبت بعض القوى الخارجية دورًا في استمرار النزاع، إما من خلال تقديم الدعم اللوجستي والعسكري، أو عبر استغلال الأزمة السودانية لتحقيق مصالحها الخاصة. واليوم، مع خروج قوات الدعم السريع من العاصمة، يبقى السؤال حول مستقبل توازن القوى داخل السودان، خاصة أن هذه القوات لا تزال تسيطر على أجزاء واسعة من دارفور، مما يطرح مخاوف جدية حول احتمالية انفصال الإقليم، أو تحوله إلى بؤرة صراع مستمرة تستنزف الدولة السودانية لعقود قادمة. إن تجربة الحرب الأهلية السودانية، التي انتهت بانفصال الجنوب عام 2011، لا تزال ماثلة في الأذهان، ويجب أن تكون درسًا في كيفية التعامل مع النزاعات الداخلية قبل أن تصل إلى نقطة اللاعودة.
لا يمكن اختزال الأزمة السودانية في بعدها العسكري فقط، فالحل الحقيقي يجب أن يكون سياسيًا، وإلا فإن الحرب ستستمر بأشكال أخرى حتى لو تم القضاء على التمرد عسكريًا. المرحلة القادمة يجب أن تكون مرحلة إعادة ترتيب الأولويات الوطنية، وليس فقط مرحلة الاحتفال بالانتصار العسكري. وهنا يأتي دور القوى المدنية، التي ظلت طوال فترة الحرب على الهامش، دون أن تكون فاعلة في صياغة مستقبل البلاد. القوى المدنية اليوم أمام اختبار حقيقي: إما أن تقدم رؤية واضحة لمستقبل السودان، أو أن تظل مجرد رد فعل على ما يقرره العسكريون. يجب أن يكون هناك مشروع سياسي يعالج جذور الأزمة، ويؤسس لدولة قائمة على سيادة القانون والمشاركة العادلة في السلطة والثروة، بدلًا من إعادة إنتاج نموذج الحكم المركزي القائم على الغلبة العسكرية.
السؤال المحوري الآن هو: كيف سيتم استثمار هذا النصر؟ هل سيؤدي إلى إعادة تثبيت الحكم العسكري، أم سيكون فرصة لإعادة بناء السودان على أسس جديدة؟ هناك مخاوف من أن يُنظر إلى التحرير كفرصة لتكريس حكم عسكري مطلق، وهو ما قد يؤدي إلى مزيد من المعارضة الداخلية واستمرار حالة عدم الاستقرار. في المقابل، هناك فرصة سانحة لبدء مرحلة انتقالية حقيقية، يتم فيها إشراك جميع القوى الوطنية في حوار جاد حول مستقبل الحكم، بعيدًا عن منطق الإقصاء والانتقام السياسي. إن استعادة الخرطوم يجب أن تكون بداية لمسار جديد، لا مجرد محطة أخرى في حلقة الصراع الدائر منذ سنوات.
التحدي الأكبر الذي يواجه السودان الآن ليس فقط تأمين العاصمة، بل إعادة إعمارها بعد الدمار الهائل الذي لحق بها. الخرطوم اليوم ليست كما كانت قبل الحرب، فقد تحولت إلى مدينة منكوبة، حيث تضررت بنيتها التحتية بشكل كبير، ونزح سكانها إلى مناطق أخرى. إعادة بناء العاصمة لن تكون مجرد عملية هندسية، بل ستكون اختبارًا لقدرة الدولة على استعادة ثقة المواطنين، وإثبات أن المرحلة القادمة لن تكون تكرارًا للأخطاء الماضية. إعادة الإعمار يجب أن تتجاوز إصلاح المباني إلى إعادة بناء العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع، بحيث يشعر المواطنون بأنهم جزء من مشروع وطني جديد، وليسوا مجرد متفرجين على قرارات تُصنع بعيدًا عنهم.
الجانب الاقتصادي لا يقل أهمية عن الجانب السياسي، فالحرب أدت إلى انهيار الاقتصاد السوداني، وتراجع قيمة العملة الوطنية، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة. تحرير الخرطوم يجب أن يترافق مع خطة اقتصادية واضحة لإنعاش البلاد، من خلال جذب الاستثمارات، وإعادة تشغيل المؤسسات الإنتاجية، وتوفير بيئة مستقرة للأعمال. الاقتصاد هو المحرك الأساسي لأي استقرار مستقبلي، وإذا لم يتم التعامل مع الأزمات الاقتصادية بجدية، فإن احتمالات اندلاع اضطرابات جديدة ستظل قائمة.
في هذا السياق، لا يمكن تجاهل دور المجتمع الدولي، الذي ظل مترددًا في التعاطي مع الأزمة السودانية، حيث تعاملت العديد من القوى الكبرى مع الصراع بمنطق إدارة الأزمة بدلًا من حلها. اليوم، وبعد تحرير الخرطوم، يجب أن يكون هناك ضغط دولي لدفع الأطراف السودانية نحو تسوية شاملة، تضمن وحدة البلاد واستقرارها. لا ينبغي أن يُترك السودان ليواجه مصيره وحده، بل يجب أن يكون هناك دعم حقيقي لمشروعات إعادة الإعمار، وتقديم المساعدات الإنسانية للمتضررين، وتشجيع الأطراف المتصارعة على الدخول في عملية سياسية جادة.
ما حدث في السادس والعشرين من مارس لحظة تاريخية، لكنها ليست نهاية الطريق. تحرير الخرطوم قد يكون نقطة تحول، لكنه لن يكون كافيًا لضمان استقرار السودان إذا لم يتم استثماره بشكل صحيح. المطلوب الآن ليس فقط الاحتفاء بالانتصار، بل البدء فورًا في بناء رؤية سياسية جديدة تُخرج السودان من دائرة الصراعات المتكررة. يجب أن يكون هناك وعي بأن الحلول العسكرية وحدها لا تكفي، وأن الطريق إلى الاستقرار الدائم يمر عبر مصالحة وطنية حقيقية، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة لتكون أكثر كفاءة وحيادية، وضمان مشاركة جميع الأطراف في رسم مستقبل السودان. إذا لم يتم اتخاذ هذه الخطوات، فإن تحرير الخرطوم قد يكون مجرد حلقة أخرى في سلسلة طويلة من الصراعات، بدلًا من أن يكون بداية لنهاية الأزمة.