عامان من السقوط الإنساني والأخلاقي في دوامة العنف والخراب

المعذبون بالحرب

الزين عثمان

ست ساعات وبعدها ينتهي كل شيء، ست ساعات وتصمت أصوات الموت تماماً، ست ساعات ونرفع بعدها التمام للقائد العام؛ انتهت المعركة بانتصار الجيش ولا دعم سريع بعد اليوم.

عند يومهم المشؤوم منتصف أبريل استيقظ السودانيون على أصوات الرصاص وعلى مشاهد الدماء. فاجأهم النهار في خرطوم غير تلك التي تعرفهم ويعرفون طرقاتها، لم تعد مدينتهم الآمنة التي تحتضنهم بكامل المحبة، فقد حولها طرفا النزاع لساحة حرب، فما أسوأ أن تتحول مدينة لساحة حرب.

الحرب التي قيل إنها ستكون بضع ساعات تحولت لكابوس أكمل عامه الأول والثاني والآن يدخل على عامه الثالث. عامان والشعب ينتظر ما أطلق عليه ساعة النصر. عامان من الحرب، في حقيقتها هي 720 يوماً من الخراب والسقوط. وفي الحرب لا تسقط المدن فقط، في الحرب يسقط الكثيرون في امتحان الأخلاق ومن بعدها يسقط كل شيء، وعليه فأن أكثر ملمح يمكن من خلاله قراءة سودان الحرب في عامين هو ملمح “السقوط” في بحر من الأهوال.

عامان من الأهوال والمعاناة واستهداف المدنيين في حرب برر من يقودونها أن هدفها هو “كرامة” السودانيين وحل وتفكيك المليشيا بحسب ما يقول الجيش، بينما برر قائد قوات الدعم السريع القتل والترويع وعمليات النهب بأن هدفها الرئيس هو جلب الديمقراطية ومحاربة فلول النظام السابق، من أجل ذلك سقط أكثر من 100 الف سوداني وفقاً لاحصاءات غير رسمية، ونزح ما يزيد عن العشرة ملايين سوداني، وتقاسمت معسكرات النزوح ملايين أخرى.

عامان غابت فيهم الخرطوم وانتقلت السلطات من مقرن النيلين لشاطئ البحر الأحمر أقصى الشرق، غرقت الجنينة في دماء أهلها وبحثت مدني عن ابتسامتها في مدن أخرى، تحولت المدارس لمساكن للنازحين ولم يقرع جرس لحصة، صارت مدن كان ملء السمع والبصر لمدن أشباح، تمدد شبح الجوع دون توقف، أغلقت المطاعم والمخابز أبوابها ولم يبق غير “التكايا”.. عامان كان أصدق ما فيهما هو تمادي طرفا النزاع في ضخ المزيد من الكذبات ودون إحساس بالذنب أو بوخز الضمير. عامان وجد المدنيون أنفسهم سجناء اتهامات طرفي النزاع، كل طرف يتهمهم بموالاة الطرف الآخر، من تركهم تحت رحمة المليشيات عادوا ليحاكموهم بتهمة التعاون مع العدو. عامان تمددت فيهما الحرب التي انطلقت من المدينة الرياضية لتغلق كل ملاعب كرة القدم في السودان، وتدفع بالمنتخب الوطن للبحث عن مناصريه في ملعب شهداء بنينا ببنغازي الليبية، حزم فيها أهل الفن والثقافة والمهنيين حقائبهم ورحلوا بعيداً عن مرمى النيران.

عامان فقد فيهما الجيش مقر قيادته العامة في الخرطوم والقصر لصالح المليشيا بحسب الخطاب الرسمي قبل أن يستعيدها موخراً بعد أن أعاد تنظيم صفوفه، لكنه وجد صفوف المدن والمباني والناس ممن تمسكوا بالبقاء داخل العاصمة تحولت لخراب ينعق فيها بوم الحرب. عادت الخرطوم ولم تعد حتى الآن، الناس فيها أنهكهم الجوع وتفتك بهم الأمراض في بلد انهار نظامها الصحي تماماً وتهدمت مستشفياتها التي تحولت لساحات حرب، وغادرتها خدمة الماء والكهرباء دون عودة، مقروناً كل ذلك بحالة الانفلات الأمني المبرر بأن البلاد في حالة حرب.

عامان تمددت فيهما كارثة الحرب دون توقف حيث لم يعد هناك مكان أمن، المكان الذي لا تصله قاذفات المدافع وسيارات الدفع الرباعي المحملة بالموت تطاله ضربات “المسيرات” كمعبر جديد عن تطور وامتدادات حرب أبريل السودانية، المسيرات التي تستهدف البنية التحتية الخاصة بالكهرباء ومياه الشرب التي يتجاوز أثرها المنطقة التي استهدفتها لأماكن أخرى يعمها الظلام بسبب انقطاع خدمة الكهرباء. المفارقة أن تمدد الحرب قابله في المقابل تمدد في تشكيل الميليشيات العسكرية التي انقسم ولاؤها بين طرفي النزاع وأصبح من النادر أن تجد منطقة في البلاد لا توجد فيها مليشيا مسلحة، وهو ما يعني أن حرب تفكيك الدعم السريع أنتجت عشرات من مليشيات الدعم السريع وصعبت من عملية تكوين جيش وطني واحد يكون معبراً عن كرامة السودان، وهو تمدد يرتبط بتمدد التأثير الخارجي في الحرب نفسها.

عامان من زيادة حدة الانقسامات في المجتمع السوداني، وفي بنية الدولة الهشة، كأحد إفرازات الحرب نفسها التي بدت تتخذ أشكالاً أخرى عبر عنها خطاب قيادات الدعم السريع في بحثها عن دوافع جديدة لجنودها من أجل مواصلة القتال، فانخرط قائد قوات الدعم السريع ونائبه في خطاب ذو صيغة جهوية تعزز من خلق حالة انقسام بين المجتمعات السودانية، وتحديد معاركهم بأنها ضد جهات بعينها في السودان، وبالطبع هذا النوع من الخطاب سرعان ما تولد عنه خطاب مضاد من محسوبين على الجهات المستهدفة ما يحول الحرب لحرب الجميع ضد الجميع. عامان من الحرب هي في المقابل عامان من العنصرية والعنصرية المضادة لها التي يستفيد أصحابها من وسائل التواصل الاجتماعي لنشر خطاب الكراهية والتفرقة.

عامان من الحرب وبالطبع عامان من العجز السياسي، فمع سيادة خطاب “البل والجغم” والحل في البل، غاب فعل السياسة في إعادة تعريف نفسها بأنها تجنيب الشعوب الكوارث ما أمكن ذلك وانتهت كل محاولات معالجة الحرب في موائد التفاوض للفشل الذي برره البعض بأنه بسبب قوى سياسية لم تحقق أهدافها من الحرب حتى الآن، وهي الاتهامات الموجهة بشكل مباشر لمكونات النظام المخلوع بفعل الثورة، ولا ينتهي الفشل في عملية العجز عن تسوية الحرب بل يمضي أكثر في اتجاهات تعزيز الأنقسام بالإعلان عن تكوين حكومة موازية في مناطق سيطرة الدعم السريع، وهي المناطق التي يصفها المراقبون بحاضنة انتهاكات وكوارث الحرب، التي أكدت بشكل أو آخر على صدق شعارات الشارع “ما في مليشيا بتحكم دولة”، والأمر ذاته يطبقه آخرون على ما يطلقون عليه سلطة الأمر الواقع في بورتسودان، فكلاهما الحكومة المفترضة أو الحقيقية في العجز عن تسيير وتسهيل حياة الناس سواء.

عامان مرا على مغادرة ياسر السوداني لمدينته الخرطوم هرباً من الموت، لكنه يقول “صحيح أنا نجوت بحياتي بعيداً عن مرمى النيران وعن عبثهم بحياتنا، لكنني وفي المقابل أموت في اليوم الف مرة بفعل الحنين لحياة قرروا ان يحرمونا منها دون ذنب جنيناه. عليهم أن يعلموا بأن النازح عن وطنه لا يملك ترف التصويت لانجاز في الانتخابات، وأن هناك فرق شاسع بين صناديق الانتخابات وصناديق الذخيرة، ولو سألوا أي سوداني مشرد لأجابهم “لا كرامة لسوداني خارج وطنه، لا كرامة لمشرد بسبب الحرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى