المفقودون.. أحياء يرزقون أم أموات فينعون
مقال يتناول المأساة المنسية للمفقودين في السودان، الذين تحولوا إلى أرقام مجهولة بين طيات النزاعات المتعاقبة. اللجنة الدولية للصليب الأحمر كشفت عن 8 آلاف مفقود في عام 2024 فقط، كـ”قمة جبل الجليد” لحقيقة أعمق، حيث تمتد جذور هذه الكارثة الإنسانية من حرب دارفور مرورًا بفض اعتصام 2019 وصولاً إلى الحرب الحالية، في سلسلة من الانتهاكات المنهجية التي كرستها خطابات الكراهية مثل “أكسح، أمسح، ما تجيبو حي” التي أطلقها نظام البشير.
تشابه صادم بين آليات الإخفاء القسري قديمًا وحديثًا، وحالات غامضة مثل اختفاء الشاعر أبوذر الغفاري في تسعينيات القرن الماضي، والأستاذ الجامعي عمر هارون، والصحفي محمد الخاتم موسى، والتي ظلت دون حل رغم مرور عقود. العقلية الأمنية ذاتها التي تتعامل مع البشر كأرقام قابلة للمحو، حيث تحولت مقابر جماعية – مثل تلك التي اكتشفت بعد فض الاعتصام – إلى شواهد صامتة على جرائم ضد الإنسانية.
البعد الإنساني للأزمة والتركيز على معاناة أسر المفقودين الذين يعيشون في “المنطقة الرمادية” بين الأمل واليأس، بين انتظار عودة الأحبة وضرورة إغلاق الملفات النفسية. أصبحت القضية اختبارًا حقيقيًا لضمير الأمة، حيث تتعالى أصوات الضحايا فوق صوت الرصاص، مطالبة بالحق في معرفة الحقيقة، سواء عبر المحكمة الجنائية الدولية أو عبر آليات العدالة الانتقالية.
قضية المفقودين ليست مجرد إحصائية، بل هي جرح مفتوح في جسد الوطن، ووصمة عار في جبين كل من شارك في هذه الجرائم أو سكت عنها. السودان لن يجد السلام الحقيقي إلا عندما يواجه هذا الملف الشائك، وينتزع اعترافًا من الجناة، ويكشف مصير كل مفقود، لأن الأمة التي تنسى ضحاياها تكون قد حكمت على نفسها بتكرار المأساة.
المفقودون.. أحياء يرزقون أم أموات فينعون
أكدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أنه تم الإبلاغ في عام 2024 عن فقدان ما لا يقل عن 8 آلاف شخص في السودان، لافتة إلى أن هذا العدد هو (الجزء الظاهر من جبل الجليد).
وقال رئيس بعثة اللجنة في السودان دانيال أومالي “هذه فقط الحالات التي جمعنا (معلومات عنها) مباشرة”، مضيفًا في مقابلة مع وكالة الصحافة الفرنسية “نعلم أن هذه مجرد نسبة ضئيلة – الجزء الظاهر من جبل الجليد – من إجمالي حالات المفقودين”.
المعلومات أعلاه التي تفضل بها رئيس بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في السودان دانيال أومالي، وهي معلومات خاصة فقط بالمفقودين في هذه الحرب الملعونة، تعيد هذه المعلومات التي جاءت في الخبر أعلاه للذاكرة القضية المنسية، قضية كل المفقودين والمخفيين قسريًا منذ سنوات النظام البائد الكالحة، وبعد عملية فض الاعتصام القذرة، وصولًا إلى مفقودي هذه الحرب الكارثية، كما تعيد للذاكرة تلك الخطابات الدموية الدراكولية التي كان بعض قيادات النظام البائد يجهرون بها على رؤوس الأشهاد، وهي خطابات موثقة صورة وصوت، ويأتي على رأس هؤلاء المخلوع البشير، فقد دأب المخلوع عند أي خطاب يلقيه أمام الجنود إبان حرب دارفور يوصيهم قائلًا (ما دايرين أسير أو جريح)، وما قاله المخلوع وقتها يمثل أوامر عليا من القائد الأعلى واجبة التنفيذ، بأن يقتلوا من يقع في أيديهم أسيرًا وأن يطلقوا رصاصة الرحمة على من يجدوه جريحًا بدلًا من محاولة اسعافه، ومن أشهر هذه الخطابات أيضًا، خطاب مشهود للمتنفذ الإنقاذي أحمد هارون، ففي مخاطبة له للمتحركات العسكرية التي كانت تحارب مقاتلي الحركة الشعبية شمال، قال هارون يخاطب جنوده (أمسح، أكسح، قشوا، ما تجيبو حي)، في تحريض واضح على الإبادة وعدم الاحتفاظ بأي أسير حي، ويؤكد على ذلك مضيفًا (ما تعملوا لينا عبء إداري)، في إشارة إلى الأعباء المالية المترتبة على الاحتفاظ بالأسرى مثل الإطعام والعلاج وخلافه، وعطفًا على تلك الأوامر العليا لا أظن أن بقي أسير أو مخفي على قيد الحياة، فالمؤكد أنهم قد تم (قشهم) ومسحهم من على وجه الأرض، ويشار الى أن كلاً من المخلوع البشير وأحمد هارون مطلوبان لدى المحكمة الجنائية الدولية، بالإضافة إلى عبد الرحيم محمد حسين لاتهام ثلاثتهم بارتكاب جرائم حرب في دارفور وجرائم لا إنسانية وإبادة جماعية.. الشاهد أن تلك اللغة الدموية كانت تمثل إحدى المؤشرات الدالة على العقلية الأمنية القهرية الاستبدادية اللا أخلاقية واللا إنسانية، التي وسمت أداء النظام البائد، إذ ليس من الأخلاق ولا من الدين دعك من اتفاقية جنيف الخاصة بمعاملة أسرى الحرب، التي تجرم قتل الأسير أو الجريح، فالإسلام الذي كانوا يتمشدقون باسمه زيفًا، يوجب معاملة الأسرى معاملة إنسانية، تحفظ كرامتهم، وترعى حقوقهم، وتصون إنسانيتهم، ويعتبر القرآن الكريم الأسير من الفئات الضعيفة التي تستحق الشفقة والإحسان والرعاية، مثل المسكين واليتيم، فمثل تلك الأقوال الدموية اللا إنسانية تكفي وحدها لتوقع قائلها تحت طائلة جريمة حرب، دعك من تنفيذ هذه الأقوال على الأرض وممارسة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي فعليًا.. أما مفقودو فض الاعتصام وما تلاه من حوادث إخفاء قسري، فتلك قضية يرجح جدًا أن من فضوا الاعتصام وما أعقبه من عمليات إخفاء قسري، كانوا يقرؤون من كتاب الإنقاذ الدموي، وطبقوا شعارها (أكسح، أمسح، قشوا، ما تجيبو حي) عمليًا. وكان أن عادت قضية المفقودين في فض الاعتصام للواجهة، عندما كشفت النيابة العامة عن العثور على مقابر جماعية رجحت احتواءها جثامين لمفقودين في فض الاعتصام تم قتلهم ودفنهم فيها، وقالت لجنة التحقيق في الاختفاء القسري للأشخاص الذين فقدوا خلال وبعد عملية فض الاعتصام القذرة، إنها ستقوم بكل ما يلزم لاستكمال إجراءات النبش وإعادة التشريح بعد أن تم تحريز الموقع ووضع الحراسة اللازمة عليه لمنع الاقتراب من المنطقة.. كان ذلك عن مفقودي عملية فض الاعتصام البشعة التي لن تمحو السنين عارها وجريمتها الفظة التي لن تسقط بالتقادم وإن مرت عليها عشرات السنين، بل ستظل محفورة في وجدان الشعب السوداني.. ويعيد كذلك خبر لجنة الصليب الأحمر للمشهد، ملف بعض الاختفاءات الغريبة والعجيبة والمريبة لبعض الأشخاص على فترات متفاوتة خلال العهد المدحور، ذلك الملف الذي كان مجرد إثارته ولو تلميحًا يثير غضب السلطات الأمنية، وأذكر أن الصحيفة (التغيير الورقية) التي كنت أعمل بها قد تعرضت للمصادرة بسبب عمود كتبته حول هذه القضية.. وتلك كانت قضايا البروف عمر هارون وغيره ممن اختفوا أو بالأصح تم إخفاؤهم قسريًا في ظروف غامضة، نذكر منهم هنا على التوالي، أبوذر الغفاري ومحمد الخاتم موسى يعقوب، بالإضافة للبروف عمر هارون.. ففي مساء كالح من مساءات (إنقاذ) مطلع التسعينيات وكانت حينها (الإنقاذ) كالكلب العقور والثور الهائج في مستودع الخزف، تطأ أي شيء وتعض أي شيء من أجل تأمين الانقلاب وتمكين الانقلابيين، توقفت في ذاك المساء سيارة بوكس على متنها عدد من الأشخاص أمام منزل أبوذر بالحاج يوسف، حيث كان يقيم مع والدته، طرقوا الباب وعندما خرج أبوذر يستطلع الطارق، طلبوا منه أن يصطحبهم في مشوار قصير، ركب معهم أبوذر الشاعر الشاب المبدع صاحب اليدين القصيرتين والطبع الهادئ الرزين، وصاحب رائعة الفذ مصطفى سيدأحمد (في عيونك ضجة الشوق والهواجس.. ريحة الموج البنحلم فوقو بي جية النوارس)، ولم يعد حتى الآن، ولم يعرف له خبر ولا أثر ولا مكان كل هذه السنوات الطوال، ومثله وبعده كان قد اختفى فجأة وبغتة وبطريقة غريبة ومريبة وظروف غامضة ومحيرة، كل من محمد الخاتم ابن زميلنا الكاتب الصحافي المخضرم موسى يعقوب (رحمه الله)، الذي خرج من داره بشكل طبيعي ومألوف في الخامسة من مساء الثالث من مارس عام (2006) ولم يعد إلى يوم الناس هذا، والبروفيسور عمر هارون أستاذ علم النفس بجامعة الخرطوم، الذي اختفى منذ ذاك الأصيل الذي خرج فيه من منزله لممارسة رياضة المشي التي دأب عليها وواظب، لدرجة أضحت من يومياته المعلومة والمعتادة وبرامجه الثابتة، ولكنه لم يعد إلى داره وأهله حتى اللحظة.. ولكم أن تتصوروا حال كل أسر المفقودين المكلومة، وهي تكابد عناء حل هذا اللغز وفك شفرة هذا الاختفاء المحير، هذه حالة تخر من هولها الجبال الراسيات، حالة (تمخول) وتجنن وتطير الصواب، وإننا إذ نجتر هذه الذكرى الأليمة والأسيفة التي أعادها لنا خبر لجنة الصليب الاحمر، لا نملك إلا أن نسأل الله أن يسخِّر لهذه الأسر من يريحها من عذابات هذا الطلسم، وينتشلها من غيهب الحزن والوجع والظنون، بإفادة شافية وقاطعة عن مصير مفقوديها، وما إذا كانوا أحياء فيرجون أو موتى فينعون، فمما لا شك فيه أن وراء اختفائهم الغامض والمريب، إما جهة ما أو مجموعة ما أو حتى فرد ما، وبالقطع لن يكونوا قد اختطفوا بواسطة (الدودو) كما في اللعبة الصبيانية المعروفة. تلك هي بعض قضايا الاختفاءات الغريبة والاخفاءات القسرية المريبة التي لن تغلق ولن تسقط بالتقادم أبدًا إلى أن يبين الحق أمام الحق جلّ وعلا.