علي كرتي وورطة الإسلاميين: صراعات الداخل وتكتيكات العودة عبر الجيش

محمد أحمد

شهدت الساحة السياسية السودانية خلال الأيام الماضية موجة من الجدل العاصف، إثر تسريبات منسوبة إلى الأمين العام للحركة الإسلامية، علي كرتي، خلال اجتماع محدود في مدينة عطبرة. هذه التسريبات، التي تناقلتها وسائط إعلامية عديدة، كشفت عن ملامح مشروع سياسي جديد تسعى إليه الحركة الإسلامية، بالتحالف مع قيادة الجيش، وتحت لافتة تنظيم بديل للمؤتمر الوطني باسم “حركة المستقبل للإصلاح والتنمية”. لكن في خلفية هذا المشهد، تقبع صراعات أعمق داخل الحركة، تدور حول جوهر مشروعها السياسي، والتوتر المزمن بين الرسالية والبراغماتية، وبين الطموح الفردي والمبدأ الأيديولوجي.

تسريبات عطبرة: ملامح مشروع “العودة”

أبرز ما حملته التسريبات المنسوبة لكرتي يتضمن دعمًا مطلقًا للجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان، وتحذيرًا من تحوّل القوات المشتركة إلى نسخة جديدة من “الدعم السريع”، إضافة إلى خطط تأسيس تنظيم سياسي شبابي ممول من أموال وشركات الحزب السابق، ورفض المشاركة في المبادرات الدولية التي تشمل شخصيات من التيار المنشق داخل الإسلاميين، مع استعداد للتعاون مع منظمات مثل “بروميديشن”.

لكن النقطة الأشد إثارة للقلق جاءت في الإشارة إلى تجربة الجنوب، بوصفها “مخرجًا بالحُسنى” يمكن تكراره مع دارفور، وهو ما قرأه كثيرون كتلميح لقبول سيناريو انفصال جديد مقابل إعادة تموضع الإسلاميين في السلطة.

 تكتيك الإنكار لا التفنيد

ردّ علي كرتي لم يأتِ في شكل تفنيد سياسي لما نُسب إليه، بل جاء عبر بيان تقليدي الطابع، اعتمد لغة دينية – وجدانية عن الابتلاء والثبات ومكر الأعداء. لم يتطرق البيان إلى أي من النقاط الجوهرية، بل تجاهل بشكل لافت التصريحات حول دارفور، والسيطرة على أصول الحزب، والدعم المطلق للجيش. هذا النمط من الخطاب يعيد إنتاج أسلوب مألوف لدى الحركة الإسلامية السودانية: إنكار في العلن، مع استمرار في التطبيق الفعلي داخل الأطر التنظيمية.

من الجنوب إلى دارفور: إعادة إنتاج تكتيك الإنكار

ليست هذه المرة الأولى التي تستخدم فيها الحركة الإسلامية خطاب الجهاد والمظلومية لتبرير سياسات براجماتية تنتهي بتنازلات كبرى. ففي الجنوب، تم رفع شعارات الشريعة والجهاد لعقود، قبل أن يُوقّع اتفاق نيفاشا الذي مهد لانفصال الجنوب عام 2011. واليوم، يبدو أن السيناريو يعاد إنتاجه: خطاب وطني تعبوي في العلن، وصفقات سياسية خلف الكواليس، قد تنتهي بتكرار الانفصال، هذه المرة في دارفور، مقابل استعادة الإسلاميين لمواقعهم في الدولة.

البراغماتية مقابل الرسالية: جوهر الصراع الداخلي

لكن أزمة الإسلاميين ليست فقط مع الرأي العام، بل هي أزمة داخلية بنيوية. فمنذ الستينيات، عرفت الحركة الإسلامية توترًا مستمرًا بين مشروعها الرسالي والطموحات الفردية لقياداتها الأكثر دهاءً. وقد كان حسن الترابي أول من كسر تقاليد “الطهرانية” الأيديولوجية، لصالح خطاب نخبوي مدني، سمح للحركة بالتوسع الأفقي، لكنه أرسى أيضًا نمطًا سلطويًا براغماتيًا ظل يتعمق حتى اليوم.

هذا التوتر بلغ ذروته بعد انقلاب 1989، حين بدّلت السلطة معايير الفرز داخل التنظيم، فبات التنافس يتم داخل مؤسسات الأمن والمال لا منابر الشورى. ومن هنا صعد علي كرتي، كأحد أبرز وجوه الجناح البراغماتي، الذي لم يكن معنيًا بالدعوة أو التنظير، بل بإدارة شبكات النفوذ داخل الدولة العميقة.

علي كرتي: عرّاب السلطة من خلف الستار

 

ارتبط صعود كرتي بمفاصل أمنية ومالية حيوية، وكان من أبرز من خططوا لـ”مذكرة العشرة” التي أطاحت بالترابي عام 1999. لاحقًا، لعب دورًا محوريًا في انقلاب 2019، حين أسهم في دفع اللجنة الأمنية لمجاراة الثورة وتنصيب ابن عوف ثم التضحية به لصالح البرهان. كما تشير تحليلات متعددة إلى دوره المؤثر في انقلاب 25 أكتوبر 2021، عبر تنسيق عالي المستوى بين الجيش وشبكات الإسلاميين الاقتصادية والإعلامية.

واليوم، يعود كرتي ليقود محاولة جديدة للعودة إلى الحكم، مستخدمًا نفس التكتيكات: خطاب تعبوي ديني، وتحالف عملي مع الجيش، واستعداد لتكرار تجارب الماضي ولو بثمن جديد.

 التاريخ يعيد نفسه… بوقائع أكثر وقاحة..

إن الجدل الذي أثارته تسريبات عطبرة، ورد كرتي عليها، ليس مجرد معركة إعلامية. بل هو تجسيد لصراع عميق داخل الحركة الإسلامية، بين من يسعون إلى العودة للسلطة بأي ثمن، وبين إرث أيديولوجي بات يستخدم فقط كغطاء شرعي لتحالفات تكتيكية. وفي الخلفية، يظهر استعداد لتكرار أخطاء الماضي – من الجنوب إلى دارفور – في سبيل مشروع سلطة لا يعرف من “الرسالية” سوى خطابها، ومن “الشرعية” سوى ما يُعيدهم إلى الحكم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى