الهامش والمركز في الأرجاء (2)
حاتم أيوب أبو الحسن
حسب وعدنا في المقال السابق بالعودة لإجلاء البقع الداكنة في مفهوم وصراع الهامش والمركز، الذي تصدّر جولات من الحروب الماراثونية التي لا تنتهي إلا بمخاطبة جذور الأزمة السياسية وإرادة البناء الجديد، استمر شأنها ما يقارب عقدًا من الزمان، فقد فيها السودانيون الملايين من الأرواح البريئة، قوامهم الكادحون العزل،
فداءً لذلك الصراع الذي يبحث في جوهره عن المواطنة الحقة، لأن تكون أيضًا على أساس نيل الحقوق وأداء الواجبات، لا على التمييز والفرز بكل أشكاله الديني، الثقافي، الجغرافي أو الإثني، من أجل فرض الهيمنة المحكمة على الأشياء في الوطن، كما تطابق مفهوم الجدلية التي شُوّهت، ومهما تغيرت أهدافها وتعددت أوجه التشويه، تظل الحقيقة الثابتة هي الأزمة السياسية السودانية الطويلة المتشعبة، مما اقتضى ضرورة تأسيس الدولة على معايير جديدة تكون مرجعًا لها.
أما بشأن الجدلية التي أصبحت مرجعًا لذلك الصراع الفوّاهي، والاستخدام السيء لمفهوم الهامش الذي سُخّر للابتزاز والمناورة لتحقيق المكاسب من المركز ذاته، حتى أصبح اليوم المركز في مهب الريح، نسف نفسه عندما لم يتعلم الدروس.
هنا تتطابق مقولة: “علي نفسها جنت براقش “.
فنشأت عدد من الحركات التحررية مستخدمة أداة الكفاح المسلح، مع اعتبار النضال السلمي المدني.
أصبح اليوم للصراع مدارس متعددة لنفس القضايا المعروفة، لكن تمّ فلسفتها والترويج لها بطرق مشبوهة، بقصد الاكتناز والتربح والمتاجرة بقضايا المجتمعات السودانية سياسيًا، ومبررات للتمرد المسلح، وهم يعلمون جيدًا أنه لا توجد في أجندتهم أي من المركز ولا الهامش، سوى رغباتهم في السلطة والمال على حساب الأرواح لنيل الامتيازات، هم نخب ذات الهامش المتحالفة مع المركز، وهو مشهد مهم من داخل الصراع، صورة واضحة لانتهازيّ الهامش.
كما توجد مدارس كفاح أخرى من داخل المشهد، ملتزمة، تناضل من أجل أهدافها السامية لمعالجة المشكل التاريخي في الأزمة السياسية بصرامة، بعيدًا عن المساومة،
ويقفون في المكان المفترض أن يكون.
كان وما يزال المركز هو المحفّز الكبير لإعادة إنتاج الصراع، وإعجابه بمتسلقي الجدلية الذين استخدمهم من أجل السيطرة على السلطة، وإن كان تحالفه مع عدو الأمس من الهامش، فالمكان هنا هو ذكاء استخدام الخصم السياسي نحو الهاوية.
يعزفون عن المفهوم لخلط الجدلية الفكرية وأهدافها الموضوعية، المركز هنا هو مركز السلطة مستخدمًا إمكانيات الدولة، سمّم وصمّم كل شيء، عمل على طمس الوعي بسبب الصراع، إصرارًا لإطالة أمده ومحاربة المعرفة، وأجبر الجميع على الالتحاق بقطار الصراع، واشتعال الحروب وتفشي السلاح، وتأسيس الجماعات والمليشيات، أربك المشهد السياسي، الفكري، والعسكري منذ نهاية التسعينيات من القرن الماضي،
وتوسعت رقعة الانقسامات بمخططات المركز لجعل المكونات متناحرة، ودعم الحروب الأهلية بشكل منظم، وإحداث الفوضى التقلبية ليستحوذ ويُسيطر على السلطة وبناء النفوذ بإمكانيات الدولة، وباسم سيادتها والالتفاف نحو الأشياء وشيطنة الجميع.
وحده اكتنز الامتيازات الكلية ووجهها لبعض السكان دون إذن منهم، ومن غير اعتبار للآخرين ولا لمستقبل المجتمعات المشترك، وتم بناء جسر من التوجس بين المجتمعات المحلية، وبذلك وُضع السودان على مهب الريح السياسي.
فإن الجدلية اليوم تم تشويهها واستخدامها، وأصبحت مشكلًا مبهمًا بدل أن تكون الحل المعرفي، وفهم الجميع لها بصورتها الصحيحة الدقيقة لمعالجات، وجب إعادة قراءة الأشياء مجددًا من أجل منتوج فكري وخطاب سياسي أكثر عمقًا ووضوحًا،
حتى لا يُستغل ليحدث انقسامًا كليًا في المستقبل، وتتشظى المجتمعات بسوء الفهم حسب المروج له من أهل مدرسة الهامش التربحي من قضايا المجتمعات السياسية عن قصد.
ولإنهاء فريتهم، لابد من منتوج فكري عملي، مفهوم ويخدم التأسيس الجديد العادل في إطار الوطن الفيدرالي الموحد، ولا يكون ذلك إلا عبر خطوات محددة، وأولها الخطاب السياسي ومنتوجه الإعلامي، لحين يتوحد السودانيون في رؤية مستقبلية موحدة، ليُوضع حد لاستهلاك الهامش والمركز بقصد ضرب المجتمعات.
نعود