فصل الجيش عن الحزب والحركة

حيدر المكاشفي
خلال زيارته للمملكة العربية السعودية في إطار جولته الخليجية، التي شملت إلى جانب المملكة كل من دولتي الإمارات وقطر، وعلى الرغم من أن المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة كانتا من الرعاة الرئيسيين لمبادرة جدة لوقف الحرب في السودان، إلا أن زيارة ترامب لم تتضمن أي تصريحات أو مبادرات جديدة بخصوص الأزمة السودانية. لم يُذكر السودان في الخطابات الرسمية أو المؤتمرات الصحفية، فيما عدا تلك الإشارة المعممة التي وردت على لسان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، التي جاء فيها (سنواصل جهودنا لإنهاء الأزمة في السودان من خلال منبر جدة الذي يحظى برعاية سعودية أميركية)، فهل بناءً على ما سبق، يمكن القول إن زيارة ترامب إلى الخليج تجاوزت فعليًا ملف الحرب في السودان، حيث لم يتم التطرق إليه بشكل علني أو ضمن جدول الأعمال المعلن مما يشير إلى أن الأزمة السودانية لم تكن ضمن أولويات هذه الجولة الدبلوماسية. شخصياً وبعدد من الشواهد لا أعتقد أن إدارة ترامب تجاهلت تماماً وكلياً أزمة حرب السودان الكارثية، فإدارة ترامب في فترة رئاسته الأولى هي من قدمت قانون (حماية الانتقال الديمقراطي)، الذي تضمن عدداً من الحوافز، في سياسة يمكن وصفها بسياسة العصا والجزرة، ومعلوم أيضاً أن سياسة ترامب منذ ولايته الأولى تعمد إلى تجاهل المؤسسات متعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، وتحويل السياسة الأميركية في المنطقة إلى تحالفات مع دول معينة مثل السعودية، مصر، والإمارات وقطر لتدير هي ملفات، منها مثلاً ملف السودان الموكل الى المملكة العربية السعودية بحسب تصريحات ولي العهد السعودي، كما أن نهج إدارة ترامب الممتد حتى الآن منذ ولايته الأولى واتضح جليًا في زيارته الحالية للدول الخليجية، أنها تعتمد على ثلاثة محاور رئيسية هي تعزيز العلاقات الاقتصادية، وضمان فعالية المساعدات الأميركية من خلال تقليص الإنفاق غير الفعّال، ومكافحة التشدد والتطرف وإنهاء الحروب، وطالما أن ملف حرب السودان أوكل تماماً للمملكة العربية السعودية لم يعد ترامب بحاجة للإشارة إليه وترك أمره لولي العهد السعودي الذي أشار إليه في حديثه الذي نقلناه عنه، ولكن هب أن ترامب تدخل مباشرة في ملف حرب السودان وملأ الميديا بالتصريحات، فما عساه أن يفعل غير محاولة حمل الطرفين المتقاتلين للتفاوض، فمن المستبعد جداً أن يتدخل بصورة سافرة لإنهاء الحرب كأن يفرض حظرًا على الطيران أو إرسال قوات للفصل بين المتقاتلين أو أي إجراء عسكري آخر.
المشكلة إذن ليست هي عدم إشارة ترامب لحرب السودان، وإنما المشكلة في طرفي الحرب أنفسهم، وبالذات في قيادة الجيش التي يمكن أن نستلف لقب (مستر نو) من السيد عبدالواحد محمد أحمد النور ونخلعه على قيادة الجيش التي صارت بالفعل (مستر نو)، برفضها لكل المنابر التي أتيحت للتداول حول الأزمة، بل حتى المنبر الذي شاركت فيه وتوصل لتفاهمات مبدئية بين الفريق كباشي وعبدالرحيم دقلو في العاصمة البحرينية المنامة، تنصلت عنه قيادة الجيش ووأدته في مهده، والملاحظ هنا أن قيادة الجيش مرتهنة تماماً للوبي البلابسة وعلى وجه الخصوص جماعة الكيزان، فكلما تسربت أخبار عن لقاء يجمع طرفي الحرب، تجد هذه الجماعة سارعت لشن حملة شعواء ضده، فتسارع بدورها قيادة الجيش ليس لنفي التسريب فحسب بل والتأكيد على استمرار الحرب حتى القضاء على المليشيا، ولا تفسير لذلك سوى أن قيادة الجيش واقعة تماماً تحت تأثير وقبضة الكيزان ولا تملك الإرادة الحقيقية للمضي في أية فرص تفاوض تلوح في الأفق، وما لم تتحرر قيادة الجيش من الهيمنة والسيطرة الكيزانية وتمتلك إرادة نفسها سيظل الحال كما هو عليه، وبالطبع لن تتحرر قيادة الجيش من قبضة الكيزان ما لم يتم فصل الجيش عن الحزب والحركة، ونعني بهما حزب المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية، ومعلوم أن هذين (الحاءين) الحزب والحركة ما فعلاه بالدولة منذ استلام الأخيرة للسلطة عبر انقلابها المشؤوم، فهما لم يسيطرا على الجيش فقط بل جعلوا من الحزب والحركة والدولة شيئاً واحداً، تماهت السلطة في الحزب وتمدد الحزب في السلطة، ووضع الدولة في خدمة الحزب، رئيس الدولة هو رئيس الحزب، ومساعد الرئيس في القصر هو نائب الرئيس في الحزب، والوالي هو رئيس الحزب في الولاية، ووزير الوزارة الفلانية هو أمين القطاع العلاني في الحزب وهكذا دواليك، كل الدولة في جوف الحزب بما في ذلك الــ… والــ… والــ… مما تعدون وتعرفون من مؤسسات وهيئات يتشكل منها قوام أي دولة، وباختصار وضع الحزب الدولة رهينة له ورهن إشارته من قمة جهازها التنفيذي وإلى أصغر وحدة محلية، وأحكم عليها الخناق تحت إبطه، لا فاصل بين الانتماء السياسي للحزب والحركة والانتماء العام للمنصب، ذاك هو هذا، وهذا هو ذاك، فلا تدري ما الذي يفعله من أجل الحزب، وما الذي يفعله من أجل المنصب، فقد اختلط حابل الدولة بنابل الحزب، حتى صار السودان كله من أقصاه إلى أقصاه رهينة بين يديه، وجعل ما فيه ومن فيه مثل خادم الفكي كلهم مجبورون قسرًا على خدمته، يسوقهم حيث ما شاء ويطبق عليهم ما يشاء بالقوة والقهر والجبروت حيناً ولا يريهم إلا ما يرى، ولا يسمع إلا ما يطربه، وبالجزرة والإغراء والملاطفة حيناً آخر، ورغم أن لجنة إزالة التمكين التي تكونت بعد ثورة ديسمبر سعت لتعديل هذا الوضع المقلوب والصورة الشائهة للدولة، بإنهاء دولة الحزب لصالح دولة الوطن بفصل الحزب عن الدولة وتخليص رقبتها من تحت إبطه، إلا أن انقلاب أكتوبر2021 الذي نفذته قيادتا الجيش والدعم السريع قبل أن تكتشف الأخيرة نوايا الانقلاب الحقيقية وتتبرأ منه، حيث وضح أن الهدف الرئيس للانقلاب كان القضاء على الثورة وإعادة الكيزان للسلطة، وهذا هو المشهد الماثل حتى الآن منذ انقلاب أكتوبر، إذ ما تزال قيادة الجيش تحت إبط الحزب والحركة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى