الطريق الثالث: من لغة الدماء إلى أهازيج الحياة
عصام عباس
في خضم الحرب الدامية التي تعصف بالسودان منذ منتصف أبريل 2023، لجأت الأطراف المتحاربة إلى تسويق ألقاب ومصطلحات ذات طابع بطولي لمقاتليها، في محاولة لتبرير العنف وتجميله، وخلق اصطفافات جديدة داخل مجتمع منهك. فقد دأب الإسلاميون على وصف مناصريهم المشاركين في الحرب بـ”الفدائيين”، وهي مفردة ذات حمولة تاريخية وثقافية تعود إلى حقب قديمة إلا أنها كانت أكثر ارتباطًا بمقاومة الاستعمار، وتحديدًا إلى سياق الصراع الفلسطيني– الإسرائيلي بعد نكبة ١٩٤٨ ونكسة ١٩٦٧، حين ارتبط المصطلح بالكفاح المسلح ضد الاحتلال الصهيوني.
ورغم أن الكلمة كانت ترتبط في الأصل بمعاني الفداء والتضحية في سبيل قضية وطنية عادلة، فإن استخدامها بواسطة جماعات الإسلام السياسي والمنظمات الإرهابية المرتبطة به، خاصة بعد أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١، أفسد معناها في كثير من السياقات، وربطها بعمليات إرهابية أو طائفية، مما أضعف رمزيتها الأخلاقية، وأكسبها طابعًا آيديولجيًا غير مرغوب فيه.
في الجهة المقابلة، تبنت قوات الدعم السريع وصف “الأشاوس” لمقاتليها، وهي كلمة عربية فصيحة تشير إلى الشجاعة والصلابة في القتال، وغالبًا ما استُخدمت في الأدب العربي الكلاسيكي لتوصيف الأبطال المغاوير. إلا أن توظيف هذه المفردة اليوم في سياق حرب داخلية تنتهك فيها حقوق المدنيين وتُرتكب فيها مجازر وجرائم ضد الإنسانية، يحوّلها من وسيلة لإلهام التضحية إلى أداة دعائية تُستخدم لتبرير العنف، وتبرئة القتلة، وإخفاء الجرائم خلف لغة مزيفة من المجد.
إن هذا التنافس في إطلاق الألقاب — بين “الفدائيين” من جهة، و”الأشاوس” من جهة أخرى — لا يُعد مجرد صراع عسكري محض، بل يشكل جزءًا من حرب نفسية موازية تعمّق الاستقطاب، وتؤسس لخطابات الكراهية، وتعزز الانقسام الإثني والسياسي والاجتماعي. فعندما تُستخدم كلمات ذات قيمة عالية أخلاقيًا لتوصيف من ينتهكون القانون ويرتكبون الفظائع، فإن اللغة نفسها تُختطف وتتحول إلى سلاح ضد الضحايا، ومن ثم تغبيش وعي الرأي العام.
بل إن الخطر الأكبر يتمثل في ترسيخ خطاب التقديس للعنف وتعميمه على المجتمع، بما يؤدي إلى تآكل القيم المشتركة، وزرع مشاعر الثأر والانتقام بين مكونات الشعب الواحد. فمثل هذه المصطلحات، بدلاً من أن تبني هوية وطنية جامعة، تعمل على تفخيخ الذاكرة الجمعية، وتدفع بالأجيال القادمة نحو مسارات أكثر تطرفًا.
إن مسؤولية النخب، والإعلام، وصناع الخطاب العام، تقتضي فضح هذا الاستخدام المضلل للغة، والدفع باتجاه تفكيك هذه الألقاب التي تحوّلت إلى واجهات براقة لجرائم بشعة، تُرتكب باسم البطولة، بينما هي في حقيقتها انهيار أخلاقي كامل باسم الكلمات.