القضارف… الصراع من أجل قطرة ماء
أفق جديد
في قلب الشرق السوداني، وتحديدًا في ولاية القضارف، تتكثف المعاناة على هيئة عطش مزمن تجاوز حدود الاحتمال، لتتحول الحياة إلى صراع يومي من أجل قطرة ماء.
تزداد الأزمة اشتعالًا في فصل الصيف، ويتحول الحصول على مياه نظيفة إلى حلم بعيد المنال، هنا، لا تنقذك صلوات المطر، ولا وعود الحكومة.
يفتك العطش بالمدينة، أصبحت الطوابير الطويلة أمام “كارو” المياه مشهدًا مألوفًا، والنساء والأطفال يسيرون كيلومترات في لهيب الشمس، يحملون أوعية الأمل فوق رؤوسهم، ويعودون بأحمال أثقل من طاقتهم، وأقل من حاجتهم.
عطش يومي.. وتجاهل رسمي
يعيش المواطنون في القضارف أزمة إنسانية مركبة، تتفاقم بفعل انقطاع الكهرباء، وتعطل الآبار، ونقص الوقود، وتآكل شبكة المياه القديمة.
ولا يقتصر الأمر على المشقة فحسب، بل يمتد إلى تهديد صحي حقيقي مع تفشي أمراض الكلى والأوبئة المرتبطة بتلوث المياه.
يقول الصحفي المقيم في الولاية، عمر دمباي، إن “مشكلة المياه تحولت إلى ملف سياسي، تم إلحاقه بقائمة المشاريع المؤجلة والمهملة مثل طريق الإنقاذ الغربي ومشروع الجزيرة”.
وأوضح لـ”أفق جديد” أن الأسرة تنفق نحو 300 ألف جنيه شهريًا فقط لشراء المياه، مضيفًا أن سعر برميل الماء تجاوز 14 ألف جنيه، بينما الثروة الحيوانية مهددة بالهلاك.
آهات من الداخل.. والوعود في الانتظار
في حديثها لـ”أفق جديد”، تقول المواطنة آمنة الخليفة: “نقطع مسافات طويلة تحت الشمس لجلب المياه، رغم التعب والمعاناة، الأمر لا يحتمل، لكنه واقعنا”.
أما أنس عبد الغني، فيشير إلى تدهور الإمداد من محطة “الشواك”، ويضيف: “هناك قرى كاملة تعيش في ما يشبه المثلث الملعون، مثل القلابات الغربية والنحل والبطانة، حيث لا مياه ولا أمل”.
حلول مؤجلة.. ومشاريع متعثرة
تستمد مياه القضارف من نهر “ستيت” الموسمي، عبر محطة “الشواك” التي لا تنتج أكثر من 13 ألف متر مكعب يوميًا، رغم أن الحاجة الفعلية للمدينة تفوق 45 ألف متر مكعب، بينما تسد الآبار نحو 10 آلاف فقط.
والمفارقة أن مياه النهر تحجز بطريقة تقليدية عبر سد ترابي، لا يصمد أمام الحاجة ولا الفصول.
وعود متكررة أطلقها المسؤولون، لكن مشروع الحل الجذري، الذي يفترض أن يوفر 150 ألف متر مكعب من المياه يوميًا من سدي أعالي عطبرة وستيت، لا يزال حبيس التعثر المالي والمشكلات الفنية.
تكلفة المشروع بلغت 67 مليون جنيه تُدفع على أقساط، لكنه اصطدم بسلسلة من العراقيل: تأخر الدفعيات، مشاكل في الشبكة الداخلية، انسحاب الشركات، وأخيرًا توقف تمويل البنك الإسلامي بجدة، مما دفع بالشركة الصينية إلى المغادرة، مخلفة وراءها منشآت مهجورة وأحلامًا معلقة.
نهاية مفتوحة.. وعطش يتجدد
مرت سنوات والقضارف تعيش بين وعود التمويل وأشباح الشركات المنسحبة، وحتى اللحظة، لم يستجب مدير إدارة المياه عمر البدوي لأسئلة “أفق جديد”، تاركًا خلفه تساؤلات معلقة بين السماء والأرض.
في هذا الجزء المنسي من الوطن، يبدو العطش أكثر من مجرد أزمة خدمية، إنه صورة متكررة للخذلان، وتجسيد حيّ لفشل السياسات العامة.
القضارف لا تنتظر مواسير جديدة فحسب، بل تنتظر اعترافًا بحقها في الحياة، وماء يكسر دورة العطش التي لا تنتهي.