أطفال بلا بداية… جيل على حافة الهاوية
أفق جديد
في بلاد أنهكتها البنادق، تاهت الطفولة بين ركام المدارس وموائد الجوع. عيون صغيرة تحدق في الفراغ، تبحث عن دفء كتاب أو ضوء قنديل، فلا تجد سوى ظلال النزوح.
في السودان، لا يكبر الأطفال، بل يتآكلون بصمت، تأكلهم الحرب من أطرافهم، ويأكلهم الجوع من بطونهم، وتأكلهم اللامبالاة من أعين العالم.
هنا، حيث صار التعليم ترفًا، والغذاء أمنية، والدواء معجزة، يمضي جيل كامل نحو هاوية لا قاع لها، بينما تقف الإنسانية مترددة، أو متواطئة، أو بعيدة تمامًا.
حصاد الحرب
مع دخول الحرب في السودان عامها الثالث، تتفاقم المعاناة الإنسانية، وتتجلّى بأشد صورها في وجوه الأطفال الذين يواجهون الجوع والمرض والحرمان من التعليم، وبعضهم على شفا الموت.
في منزل عشوائي على أطراف حي “حبيب الله” بمدينة ود مدني بولاية الجزيرة، يعيش عبد الغني عبد الله مع زوجته وأطفاله في انتظار المجهول، بعد أن دمرت الحرب مصدر رزقه، وأفقرته، وحرمت أطفاله من مقاعد الدراسة.
قال عبد الله لـ”أفق جديد”: “أطفالي يعانون الجوع والمرض والحرمان من التعليم بسبب النزوح المستمر”، مضيفًا: “حياتهم مهددة بالكامل، ولا أستطيع فعل شيء بعد أن فقدت عملي وأُصبت بالمرض”.
وتحكي سعاد أحمد، أرملة تقيم في الحي نفسه، عن معاناة مماثلة: “أطفالي لا يستطيعون الذهاب إلى المدرسة بسبب الرسوم. طُلب مني دفع 50 ألف جنيه لرياض الأطفال، وليس لدي أي مصدر دخل”.
لكن نادية حمد النيل، وهي معلمة في رياض الأطفال بمدينة ود مدني، توضح أن الرسوم تذهب لتغطية النفقات الأساسية: “نستخدم ما نجمعه من رسوم لشراء الأدوات المدرسية، فنحن لا نتلقى أي رواتب حكومية”.
ورغم صعوبة الأوضاع، تؤكد نادية حرصها مع زملائها على استمرار العملية التعليمية: “الوضع سيء ومعقد، لكننا نحاول أن نمنح الأطفال فرصة للتعلم، علنا نمحو من ذاكرتهم آثار الحرب والدمار”.
أزمة جيل
يقول سامي الباقر، المتحدث باسم لجنة المعلمين السودانيين (مستقلة)، لـ”أفق جديد”: “استمرار العملية التعليمية في ظل الحرب ملف شائك، وإن طال أمده فسنواجه أزمة جيل كامل”.
ويعاني السودان حاليًا من واحدة من أسوأ الأزمات التعليمية في العالم، حيث لا يتمكن أكثر من 90% من الأطفال في سن المدرسة البالغ عددهم 19 مليون طفل في البلاد من الوصول إلى التعليم الرسمي، وسيؤدي التعطيل المستمر للتعليم إلى أزمة أجيال في السودان.
ويضيف الباقر: “الدعم الحكومي للتعليم قبل الحرب كان ضعيفًا أصلًا، وازداد التدهور خلال الحرب، ما أثر على التعليم من كافة النواحي على مستوى الاستيعاب والجودة والتسرب الكبير للطلاب بعد الدخول إلى المدرسة”.
وأردف: “الدولة تتنصل الآن من دفع رواتب المعلمين حتى في المناطق التي تخضع لسيطرتها”.
مجاعة أطفال
وفي ظل استمرار الحرب من المتوقع أن يعاني حوالي 4 ملايين طفل دون سن الخامسة من سوء التغذية الحاد، بما في ذلك 730 ألف طفل من المتوقع أن يعانون من سوء التغذية الحاد الشديد الذي يهدد حياتهم.
ووفق نائب المدير التنفيذي لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف)، فإن “الحرب الضارية والمجاعة المحتملة تخلق بيئة مشؤومة لخسارة كارثية في أرواح الأطفال”.
وأوضح أن “حوالى نصف الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية الحاد الشديد يعيشون في مناطق يصعب الوصول إليها، حيث يدور قتال مستمر، مما يجعل ظروفهم أكثر خطورة. كل هذا يمكن تجنبه، ويمكننا إنقاذ الأرواح إذا سمحت لنا جميع أطراف النزاع بالوصول إلى المجتمعات المحتاجة والوفاء بمهمتها الإنسانية – دون تسييس المساعدات”.
وحسب يونيسيف، فإن 1.6 مليون طفل وطفلة نازحين بحاجة إلى مساعدة بمن فيهم من يعيشون في المناطق المتضررة من النزاع.
61% من الأشخاص النازحين داخليًا في المخيمات هم من الأطفال. 65٪ من اللاجئين تقريبًا في السودان هم أطفال. يعاني الكثير منهم من الصدمة قبل وأثناء رحلتهم إلى السودان، مما يعرض الأطفال لخطر أكبر من الإيذاء والاستغلال والعنف. يشكل الأطفال حوالي 60٪ من عدد الأشخاص النازحين.
تعليم على الهامش
ويبلغ معدل الالتحاق بالمدرسة في المناطق الثمانية المتضررة من النزاع (ولاية دارفور، وجنوب وغرب كردفان والنيل الأزرق) 47٪، وهي نسبة متدنية جدًا مقارنة مع متوسط معدل الالتحاق بالمدرسة في باقي مناطق البلاد. هناك حوالي 1.7 مليون طفل وطفلة ممن هم في سن المدرسة (4 -16 سنة) بحاجة إلى التعليم في برامج دعم الحالات الطارئة، بما فيهم 800.000 نازح ونازحة داخليين. ما يصل إلى 40٪ من الأطفال اللاجئين السودانيين في مناطق الجنوب هم في سن المدرسة، و52٪ من هؤلاء الأطفال خارج المدرسة.
يقول المتحدث الرسمي باسم لجنة المعلمين السودانيين في حديثه لـ”أفق جديد”: “استئناف العملية التعليمية يثقل كاهل التلاميذ بدفع الرسوم مقابل الإنفاق على المدارس بما فيها استحقاقات المعلمين”.
وذكر الباقر، أن بعض الولايات تستأنف الدراسة في المدن فقط دون النظر إلى بقية المدارس المنتشرة في الريف والبلدات الصغيرة.
وأضاف: “نواجه مسألتين، إما عدم انتظام العملية التعليمية تمامًا، أو إعلان فتح المدراس دون الالتزام بالإنفاق، بالتالي فإن المسألة تؤثر على الأسر وتحميلهم تكلفة عالية ما يؤدي إلى الإحجام عن إرسال الأطفال إلى المدارس”.
خطر الموت
ويعاني حوالي 2.3 مليون طفل وطفلة من سوء التغذية، وتعزى تقريبًا نصف حالات وفاة الأطفال دون سن الخامسة إلى سوء التغذية.
ويعاني 694.000 طفل وطفلة من سوء التغذية الحاد الوخيم ويصارعون من أجل البقاء.
من بين الولايات الـ 18 في البلاد، تعاني 11 ولاية من انتشار سوء التغذية بنسبة تزيد عن 15٪. وهذه النسبة أعلى من عتبة الطوارئ حسب معايير منظمة الصحة العالمية. يعاني واحد من كل ستة أطفال في السودان من سوء التغذية الحاد.
ويحتاج حوالي 820.000 طفل وطفلة دون سن الخامسة إلى الحصول على الرعاية الصحية، بما ذلك التطعيم والخدمات المنقذة للحياة الأساسية. حوالي 36٪ من مرافق الرعاية الصحية الأولية في جميع أنحاء السودان هي مرافق غير صالحة تمامًا للعمل، إما بسبب نقص في طواقم العمل أو بسبب تردي البنية التحتية المادية.
ويفتقر حوالي 4.9 مليون شخص إلى الحصول على كميات كافية من مياه الشرب ووسائل التغوط الآمنة. يُعتبر الحصول على خدمات المياه والإصحاح البيئي الموثوقة والمستدامة مسألة طارئة بالنسبة للاجئين في المخيمات في شرقي السودان ودارفور والنيل الأبيض، وكذلك الحال بالنسبة للاجئين السودانيين في مناطق الجنوب.
ومنذ أبريل 2023، يشهد السودان حربًا بين الجيش وقوات “الدعم السريع”، خلّفت أكثر من 20 ألف قتيل ونحو 15 مليون نازح ولاجئ، وفق الأمم المتحدة والسلطات المحلية، بينما قدر بحث لجامعات أمريكية عدد القتلى بنحو 130 ألفًا.