على حافة الأفق -2-

العقل السياسي السوداني: تفكيك الأسطورة وإعادة البناء (2)
كما أسلفنا، لقد ظلت بنية العقل السياسي السوداني أسيرة تجاذبات عميقة بين الحداثة الموروثة من التجربة الاستعمارية، والتقليد الممتد من مزيج الثقافة القومية والقبلية والإسلامية، وبين خطاب قومي لم ينج من غوث المركزية وواقع تنوع إثني وجغرافي معقد وقع تكرار الانتكاسات الديموقراطية والانقلابات العسكرية، تبلورت داخل هذا العقل أنماط سلوكية ومفاهيمي محددة أصبحت بمثابة السمات المميزة له، هذة السمات ليست صفات فردية أو جينية، بل هي نتاج ذاتها لعقد طويلة، فغياب المشروع الوطني المتوافق عليه، وتهميش الأطراف واحتكار السلطة والثروة، وتغليب التكتيك علي الرؤية، كلها عوامل ساهمت في صياغة عقل سياسي مشدود بين نوايا الطائفية وبروز الشعبوية، بين عسكرة السياسة وتأسيس المؤسسة العسكرية، بين التدين السياسي وانهيار المشروع الإسلامي نفسه، بين شعارات التغيير وإدمان التسويات، من هنا ننتقل للغوص في السمات البارزة التي تميز العقل السياسي السوداني، على ضوء ما تراكم من تاريخ وسلوك ومواقف، وذلك هدف تفكيك بنية ورصد مواطن الضعف وربما الإمساك ببعض الخيوط التي قد تساهم في إعادة تشكيلة على أسس جديدة أكثر عقلانية وشمولًا وعدالة، ويمكن لنا استدعاء السمات أدناه وهي الأكثر تمييزًا لعقلنا السياسي:
أولاً :
الإستراتيجية الغائبة مقابل التكتيك الحاضر، واحدة من أبرز سمات العقل السوداني السياسي هي الميل الغالب لإدارة الواقع السياسي عبر التكتيك قصير المدى، بدلًا عن تبني إستراتيجيات بعيدة المدى، فالتحالفات تبنى على المصالح اللحظية، والقرارات تتخذ تحت ضغط اللحظة دون منظور بنيوي يتبدى ذلك في الانقلابات المتكررة والاتفاقات السياسية الهشة التي سرعان ما تنهار، هذا العجز في التفكير الإستراتيجي يعكس عدم وضوح المشروع الوطني أو غيابة ويجعل الأداء السياسي أقرب إلى ردود الفعل منه إلى الفعل المؤسس.
ثانياً:
ضعف المؤسسة وهيمنة الشخصية، يتسم العقل السياسي السوداني بضعف إيمانه بالمؤسسات، وبالمقابل تبرز ثقافة الزعيم الفرد، سواء في الطائفية، أو الحركات المسلحة أو حتى الأحزاب الحديثة. ترتبط المشاريع بشخصيات فإذا غابت الشخصية انهار المشروع، غياب المؤسسية ينتج عقلًا يتعامل مع دولة ضعيفة ومع التنظيم السياسي لملكية خاصة ويؤدي إلى هشاشة في استمرارية المشاريع.
ثالثاً:
الإقصاء مقابل التعدد، رغم التنوع الهائل في السودان، يظل العقل السياسي النخبوي متمسكًا برؤية مركزية إقصائية، تقصي الجهات، الثقافات، الأعراف وحتى الأصوات الشبابية والتسوية لصالح نخبة ضيقة ترى نفسها وصية على المستقبل .
رابعاً:
التوهم مقابل الواقعية، يتوهم كثير من الفاعلين امتلاكهم للقوة أو الشرعية دون امتلاك أدواتها الفعلية، مثل قوى سياسية تتحدث كأنها تحكم، وهي عاجزة عن إدارة شارع أو بناء قاعدة تنظيمية، ولا شك أن الوهم حالة مرضية، وتظل مستلبة لصاحبها ما لم يكن لدية إرادة في التخلي عنها، ليساير الواقع الذي حوله والتفاعل معه ليكون إنتاجه إيجابيًا.
خامساً :
التبرير مقابل النقد الذاتي، غياب ثقافة الاعتراف بالخطأ تعيق أي تطور، تهيمن لغة التبرير على العقل السياسي مثلًا “الشارع خذلنا، المجتمع الدولي تآمر، الظروف لم تسمح”، نادرًا ما نسمع “أخطأنا ونتراجع”.
وإذا تتبعنا قوانا السياسية لن نجد واحدة مارست النقد الذاتي نحو أي قرار اتخذت ورغم خلطة الواضح البين، وحالة الإنكار نلاحظ أنها تعبر بكل تأكيد عن تنظيمات تتبختر في الشارع السياسي دون أن تعي ضرورة إعلاء قيمة النقد الذاتي كشرط لتطورها.
سادسًا:
الاختزال بديلًا عن التركيب في الفهم، يميل الفعل السياسي إلى تبسيط تعقيدات الواقع سواء في قراءة المشاكل أو صياغة الحلول، تختزل الأزمات في أشخاص (ديكتاتور، انقلابي، انتهازي… إلخ) بينما تغفل البنى الميتة المنتجة لها في المقابل يغيب الفهم “التركيبي” القائم على تحليل التفاعلات المعقدة بين المركز والهامش، وبين الدولة والمجتمع، بين الدين والسياسة، هذة النزعة التسلطية تسهل الشعارات، ولكنها تضعف البناء الفكري للبرامج والبدائل.
سابعًا:
ثقافة التسويات السطحية والهروب من جذور الصراع، إذ يميل السياسيون السودانيون إلي تسويات فوقية لا تلامس جذور الأزمات، سواء كانت اقتصادية أو بنيوية أو ثقافية، تبرم الاتفاقات على الورق دون ضمانات التنفيذ وتغلق الملفات دون مصالحة حقيقية، تتكرر أنماط “الانتقال السريع” بعد ثورة مكان المطلوب فقط تتغير الرموز دون مراجعة البنية، هذة الثقافة جعلت من العقل السياسي عاجزًا عن مواجهة الذات، وأدمن الهروب إلى الأمام .
إن تتبع سمات العقل السياسي السوداني يكتشف عن بنية ذهنية تشكلت في سياق معقد، حيث تضافرت عوامل التاريخ والجغرافيا والسلطة والمقاومة في إنتاج عقل متردد بين الممكن والمرغوب، بين الواقعي والمثالي، وبين الإرث والتجاوز فهذه السمات، وإن بدت أحيانًا وكأنها قدر محتوم إلا أنها في حقيقتها تعبير عن شروط اجتماعية وسياسية قابلة للنقد مراعاة البناء، ما تحتاجه اليوم ليس إدانة هذا العقل، بل مساءلة، تفكيك. إعادة تشكيلة على أسس جديدة، عقل يستبدل الشخصية بالمؤسسة والشعارات بالبرامج والتكتيك بالرؤية، عقل يدرك أن الثورة لا تكتمل بالخروج إلى الشوارع فحسب بل ببناء الوعي، وترسيخ مشروع وطني جامع يحتضن الجميع.