“تمبول” تستغيث… الكوليرا في زمن الانهيار
أفق جديد
بينما تعصف الحرب بأنحاء السودان وتنهار الخدمات الأساسية في معظم مناطقه، تتسلل الكوليرا كجائحة صامتة تضرب المجتمعات الهشة وتفاقم معاناة الناس.
في مدينة “تمبول” الواقعة شرق ولاية الجزيرة، لا يقتصر الخطر على صوت المدافع أو شحّ الغذاء، بل يتجسد في مشهد المرضى الممددين على الأرض وتحت ظلال الأشجار، بانتظار جرعة دواء أو محلول وريدي ينقذ حياتهم.
في ظل تراجع قدرة النظام الصحي، وتوقف معظم مرافق الرعاية، بات وباء الكوليرا يهدد بانهيار كامل للقطاع الصحي في مناطق عدة.
رصدت “أفق جديد” الأوضاع داخل مستشفى “تمبول”، حيث تكشف التفاصيل حجم الأزمة الصحية المتصاعدة، وجهود التصدي لها محليًا ودوليًا.
أوضاع مأساوية في مستشفى “تمبول”
يعيش مستشفى “تمبول” بشرق ولاية الجزيرة أوضاعًا صحية متدهورة، نتيجة تفشي وباء الكوليرا وتكدس المرضى داخل العنابر وتحت الأشجار، في ظل ندرة الأدوية وارتفاع أسعار المحاليل الوريدية.
ويخشى مراقبون من انهيار كامل للمنظومة الصحية إذا استمر الوباء في الانتشار، خاصة بعد توقف نحو 80% من مرافق الرعاية الصحية في مناطق النزاع، وتعطل ما يقارب 45% من المرافق في المناطق الأخرى.
مصادر طبية أفادت لـ”أفق جديد” بأن المستشفى يشهد أوضاعًا مأساوية بسبب نقص الطواقم الطبية والاكتظاظ الشديد، مما يستوجب تدخلًا عاجلاً من السلطات الصحية في ولاية الجزيرة.
المرضى تحت الأشجار وندرة الدواء
وخلال جولة ميدانية، رصدت “أفق جديد” معاناة المرضى والمرافقين الذين يواجهون نقصًا في أبسط مقومات الرعاية، وسط بيئة طبية هشة.
يقول المواطن عبد الله الطريفي: “وباء الكوليرا دفع مدينة تمبول والقرى المجاورة إلى حافة أزمة صحية خانقة، في ظل نقص حاد في خدمات الكهرباء والمياه”، مضيفًا أن “المرضى يفترشون الأرض داخل العنابر وتحت ظلال الأشجار”.
شهادات مواطنين وتحذيرات ميدانية
من جانبها، قالت المواطنة هاجر يوسف إن انتشار الكوليرا بات واسعًا، ورغم تطمينات إدارة المستشفى بانحسار الوباء، فإن الواقع يشير إلى حاجة ملحة للمزيد من الوقت والموارد.
وأضافت: “نطالب بتوفير الأدوية والمحاليل الوريدية، فأسعارها باتت خارج متناول اليد في الصيدليات”.
جهود محدودة
وفي حديث لـ”أفق جديد”، أكد طبيب بمستشفى “تمبول” – فضّل حجب اسمه لعدم تخويله بالتصريح: أن الوباء لا يزال تحت السيطرة رغم النقص الحاد في الكوادر والأدوية.
وكشف عن وصول شحنة مساعدات طبية من الحكومة التركية عبر مطار بورتسودان، تضمنت 37 طنًا من المستلزمات والمحاليل الوريدية.
أطلقت وزارة الصحة السودانية مؤخرًا حملة تطعيم فموي ضد الكوليرا، شملت جنوب الخرطوم، بتوزيع 115 ألف جرعة، مع خطط لتوسيع الحملة إلى ثلاثة ملايين جرعة لاحقًا.
بدوره، دعا “مؤتمر الجزيرة” في بيان له، السلطات الصحية والتعليمية إلى التحرك السريع لمواجهة تفشي حالات الإسهال المائي بمستشفى تمبول، بعد تسجيل 24 حالة قادمة من قرى متعددة.
وطالب البيان بتوفير الدعم الطبي اللازم، وتكثيف الترصد الوبائي، وتحديد مصادر العدوى، إضافة إلى اتخاذ إجراءات وقائية عاجلة.
كما شدد على ضرورة النظر في إغلاق المدارس بالمنطقة المتأثرة لحماية التلاميذ من خطر العدوى، داعيًا المجتمع المحلي إلى الالتزام بالنظافة الشخصية وتعقيم المنازل والمرافق العامة.
الخرطوم.. بؤرة تفشٍ وسيناريوهات كارثية
في نهاية مايو الماضي، شهدت أم درمان ومناطق أخرى بولاية الخرطوم تفشيًا مقلقًا للوباء، حيث تم تسجيل نحو 2500 إصابة في يوم واحد، بينها 500 حالة مؤكدة.
وفي 28 مايو، أعلنت منظمة “يونيسف” ارتفاع عدد الإصابات في الخرطوم من 90 إلى 815 حالة يوميًا، مشيرة إلى أن إجمالي الحالات المسجلة منذ يناير بلغ 7700 إصابة و185 وفاة.
وكشفت المنظمة الأممية حاجتها إلى 3.2 مليون دولار إضافية لدعم استجابتها الطارئة، التي تشمل مجالات الصحة والمياه والصرف الصحي والتغيير السلوكي، إلى جانب برامج تغذية منقذة للحياة عبر 105 مراكز صحية و4 مراكز استقرار.
الهجمات على البنية التحتية تفاقم الأزمة
لفتت “يونيسف” إلى أن الهجمات على محطات الكهرباء في الخرطوم تسببت في انقطاع التيار وتعطل إمدادات المياه، ما أجبر الأهالي على استخدام مصادر ملوثة، ففاقم من معدلات الإصابة.
وقدمت المنظمة مولدًا كهربائيًا لمحطة “المنارة” بأم درمان، التي تغذي أكثر من مليون شخص في كرري وأم درمان القديمة، كما أطلقت استجابة متعددة الجوانب شملت معالجة مياه الشرب المنزلية وتوزيع مواد تعقيم وتطهير.
وأكدت “يونيسف” أن النزاع القائم أدى إلى نزوح ثلاثة ملايين شخص من الخرطوم، عاد منهم 34 ألفًا فقط منذ بداية العام، معظمهم إلى مناطق مدمرة تفتقر إلى الخدمات الأساسية.
وأشارت المنظمة إلى أن مليون طفل يعيشون في مناطق متضررة بولاية الخرطوم، ويواجه 33% من الأطفال في جبل أولياء والخرطوم خطر المجاعة، وسط معاناة أكثر من 307 ألف طفل من سوء التغذية الحاد، ما يجعلهم عرضة لخطر الموت عند الإصابة بالكوليرا أو الإسهال.
تطعيمات بالملايين.. والأمل لا يزال قائمًا
منذ 2023، قدمت المنظمة أكثر من 13.7 مليون جرعة من لقاحات الكوليرا الفموية، بينها 1.6 مليون جرعة هذا العام فقط، مع خطط لتوفير 3 ملايين جرعة إضافية بنهاية الشهر الجاري.
تفاقم أزمة الكوليرا في السودان يعكس هشاشة المنظومة الصحية، ويكشف عن حجم التحديات التي تواجه السكان في ظل النزاع وانهيار البنى التحتية.
في “تمبول” كما في الخرطوم، الكوليرا ليست مجرد مرض، بل مرآة لوضع إنساني حرج يحتاج إلى تدخل عاجل قبل أن يتحول إلى كارثة شاملة.