الركن الخامس للبيع: اين تذهب أموال الحجيج السودانيين 

ملايين الريالات في مهب التجاوزات.. تفاصيل فساد منظم باسم الشعائر

 

أفق جديد

 

في موسم يُفترض أن يكون ذروة الطهر والسكينة، يجد الحاج السوداني نفسه في قلب منظومة معقدة من الاستغلال والإهمال، حيث تباع الشعائر وتختطف قدسية الفريضة لحساب شبكة فساد تتكرر ممارساتها كل عام دون رادع.

من أسعار الهدي التي تفصّل خارج القانون، إلى صفقات نقل وسكن تدار في الخفاء، تتكشف خيوط و يُماط اللثام عن منظومة يقدَّم فيها الحج كسلعة، وتُهدر فيها كرامة الإنسان باسم الإيمان.

أين تذهب أموال الحجيج؟ ومن يحمي هذا الفساد المتجذر؟

بين الشهادات الميدانية والوثائق والأرقام، يكشف هذا التقرير ما حاول كثيرون إخفاءه.

 

 **الهدي شعيرة تتحول إلى صفقة*  

 أولى ملامح الفساد ظهرت في ملف الهدي، حيث تم تحصيل مبلغ 720 ريالاً سعودياً من كل حاج مقابل الهدي، بينما جرى التعاقد مع وكيل لتنفيذ الشعيرة بسعر 420 ريالاً فقط، وباستخدام ماعز صومالي منخفض الجودة. 

الفارق البالغ 300 ريال عن كل حاج، وعند ضربه في عدد الحجاج الذي تجاوز 12,000، يكشف عن تلاعب بأكثر من 3.6 مليون ريال سعودي في هذا البند فقط.

 *عقود باهظة وباصات متهالكة* 

في ملف الترحيل، وقع القائمون على البعثة عقوداً للنقل البحري بأسعار تتجاوز السوق بأضعاف، كما جرى استئجار باصات متهالكة، عرضت الحجاج لمشاكل عديدة، خاصة أثناء التنقل بين مكة والمدينة والمشاعر، وسط تكدس خانق وساعات انتظار طويلة.

 

 *عمولات وسماسرة ومساكن على الجبل.* 

 

شكاوي الحجاج لم تقتصر على النقل، بل طالت السكن، إذ تم فرض عمولات على أصحاب الفنادق عبر سماسرة، وأجبرت ولايات سودانية على التعاقد مع جهات محددة دون عطاءات شفافة، ما أدى إلى تكديس الحجاج في فنادق قديمة بعيدة عن الحرم، بل إن بعض المساكن كانت على قمم الجبال، يصعب منها الوصول للجمرات سيرًا على الأقدام، في ظل غياب تام للنقل الترددي.

ملف الإطعام لم يكن أقل فسادًا، حيث جرى اختيار المطابخ من داخل القنصلية السودانية بجدة، دون أي عطاءات أو منافسات، وهو ما جعل الحجاج يتناولون وجبات رديئة الجودة، رغم أن التكلفة الرسمية للوجبة الواحدة حُددت بـ55 ريالاً، بينما كان المورد يتقاضى 25 ريالاً فقط. الفارق، كما في بنود أخرى، ذهب لصالح شبكة محددة داخل البعثة.

وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن إجمالي التجاوزات في هذا الملف قد تتجاوز 27 مليون ريال سعودي.

 

 *مخيمات مكتظة معانأة بلا حدود* 

 

لم تقتصر الشكاوى على الملفات الإدارية والمالية، بل امتدت إلى معاناة الحجاج أنفسهم. روى عدد كبير من الحجاج أوضاعًا مأساوية، خاصة في مشعر منى، حيث تم تكديس أكثر من 350 حاجًا في خيمة لا تتجاوز مساحتها 6 أمتار عرضًا في 80 مترًا طولًا، ما تسبب في انتشار الالتهابات ومشاكل صحية نتيجة التلاصق الشديد وسوء التهوية.

ووصف الحاج  مهتدي محمد سعيد المتوكل، في حديث خاص لـ(أفق جديد)، مشاهد موجعة عاشها حجاج السودان في سكن منى خلال حج 2025.

واوضح إن التكلفة التي دفعها الحجاج السودانيون هذا العام بلغت قرابة 19 ألف ريال سعودي للفرد، وهو مبلغ يفوق بكثير ما يدفعه حجاج من دول أخرى لقاء خدمات فندقية متكاملة وراحة في أداء المناسك، بينما اضطر السودانيون لبيع مدخراتهم وأساسيات حياتهم لتحقيق حلم الحج.

بدأت المعاناة، بحسب المتوكل، منذ رحلة السفر، حيث تم استخدام أرخص الخطوط البحرية، وتُعرف بانخفاض تكلفتها وليس بجودتها.

 أما الفنادق، فوصفها بأنها دون المستوى، حيث تم إسكان الحجاج في فنادق متهالكة – مثل فندق “سماء البيت” – يُقال إنه مدرج ضمن قائمة الإزالة، ما يفسر تدني تكلفته وتردي بيئته، الأمر الذي لا يتناسب مع المبالغ المدفوعة مسبقًا.

لكن الكارثة الحقيقية – على حد وصفه – كانت في السكن بمشعر منى. فقد تم تكديس ما يقارب 350 شخصًا داخل خيمة ضيقة لا تتجاوز 6 أمتار عرضًا و80 مترًا طولًا، ضمن مخيم رقم 703 الذي ضم نحو 4 آلاف حاج سوداني، في ظل وجود 10 دورات مياه فقط للرجال، ومثلها للنساء، بالإضافة إلى 10 مواضئ لكل جنس. وهو ما تسبب في اختناقات صحية وانتشار التهابات وأمراض، خاصة في ظل تلاصق الأجساد وانعدام الخصوصية وغياب التهوية.

وأضاف : “كنا ننام، نأكل، ونصلي على مرتبة لا تتعدى شبرين. الناس كانت تتنفس في بعضها،  بعض الحجاج المصابين بداء السكري أو من ذوي الاحتياجات الخاصة لم يتمكنوا من قضاء حوائجهم أو أداء المناسك بصورة كريمة”.

واوضح عند سؤال السعوديين عن السعة الطبيعية للمخيم، أفادوا بأنها تستوعب حوالي 100 فرد فقط، إلا أن المخيمات السودانية استُغلّت بسعة تفوق ثلاثة أضعاف هذا العدد. وأكد ، من خلال تجربته الشخصية، أن مقارنة بسيطة مع مخيمات دول أخرى، حتى دول ذات إمكانيات أقل مثل دولة جنوب السودان، تكشف حجم المعاناة. حيث تُستخدم المراتب والمقاعد العربية وتُجمع لتصبح سراير تُغلّف وتصبح كأنها كراسي، في حين أن الخيمة لا تتسع لأكثر من 50 شخصًا مقابل 20 حمامًا فقط.

أما الاطعام، فلم يكن أفضل حالًا، إذ جرى التعاقد – بحسب المتوكل – مع شركات متدنية الجودة، دون توفير منتجات معروفة أو فواكه طازجة. وأضاف: “لم نرَ منتجات من شركة المراعي مثلًا، وكل ما قُدم لنا كان بعيدًا عن الحد الأدنى المقبول، رغم أننا دفعنا ثمن الخدمة كاملة منذ البداية”.

ورغم كل ذلك، امتدح دور أمراء الأفواج، واصفًا أداءهم بأنه مشرف، مؤكدًا أنهم لم يقصروا، بل بذلوا جهدًا مضاعفًا، إلا أن صلاحياتهم كانت محدودة وخاضعة لقرارات هيئة الحج والعمرة.

 

  غضب شعبي: شهادات الحجاج* 

شكاوي الحجاج توالت عبر منصات التواصل الاجتماعي خاصة على صفحة المجلس الأعلى للحج والعمرة على منصة الفيسبوك. رودينا السماء: أكدت أن بعثة الحج السودانية لم تحظَ بأي اهتمام أو رعاية، مشيرة إلى رفض أمراء التفويض النزول إلى صعيد مزدلفة رغم أهميته في المناسك، الأمر الذي اضطر مجموعة من النساء للنزول بأنفسهن للصلاة.

محمد:  عبّر عن أسوأ تجربة في السكن بمدينة منى، واصفًا الوضع بأنه “في أعلى قمة الجبل” وأن الذهاب إلى الجمرات أصبح أمرا صعبا للغاية بسبب سوء التنسيق. إيمان لفتت إلى سوء التنسيق الواضح في أغلب المناسك، مشيرةً إلى أن الجنسيات الأخرى تحظى بمعاملة أفضل، وناشدت الله أن يردع من يقصر في حق الحجاج.

بالمقابل استعرض بكري إدريس، وضع الفنادق في مكة والمدينة، مشيرًا إلى الاكتظاظ الشديد وغياب وسائل النقل المريحة، خاصة في منى حيث المخيمات تقع على المرتفعات، مما زاد من معاناة كبار السن. 

سمير علي انتقد ممارسات احتكار الحج وغياب الشفافية، مستغربًا كيف تُباع هذه الخدمة بمبالغ مرتفعة دون تقديم خدمات مناسبة، ومؤكدًا أن ذلك يزيد من تأجيج الأزمة.

ياسمين التاج أحمد تحدثت عن إحراج الحجاج السودانيين أمام حجاج الدول الأخرى، واصفة الوضع بأنه “جعل الحجاج يتسولون في الشوارع”، وطالبت الجهات المسؤولة بالالتفات لحقوق الحجاج السودانيين الذين يدفعون مبالغ كبيرة ولا يحصلون على خدمات تليق بهم.

أما إيمان، فقد روت مشاهد الازدحام داخل فنادق المدينة المنورة، حيث وقف كبار السن لساعات في طوابير المصاعد، دون مراعاة لأوضاعهم الصحية. وأكدت أن فندق مكة كان على بعد 8 كيلومترات من الحرم، دون توفير وسائل مواصلات، فيما أقيمت المخيمات في منى على الجبال. وقالت: “الحجاج دفعوا مبالغ طائلة، لكنهم لم يجدوا مقابلًا لخدمات تحترم إنسانيتهم”.

ورغم هذه الاتهامات، فإن بعثة الحج الرسمية التزمت الصمت، بينما عمد الأمين العام للمجلس الأعلى للحج والعمرة سامي الرشيد، الى قفل ملفه الشخصي على “فيسبوك” بعد تزايد التوثيقات والمقاطع المصورة التي نشرها الحجاج لكشف حجم التقصير.

ورغم تواصل “أفق جديد” مع الرشيد، للرد على الاتهامات والملاحظات التي طرحها الحجاج، لم تتلقَ الصحيفة أي رد حتى لحظة نشر هذا التقرير.

 

 *شهادة نائب سابق: مافيا الحج أقوى من القانون* 

 

الشهادات السابقة لم تكن جديدة على النائب البرلماني السابق عمر عبد الله دياب، الذي تحدث لـ«أفق جديد» مستندا إلى سنوات من المتابعة الميدانية والتقارير الرسمية التي وثّقت فساد بعثة الحج . 

عُرف دياب داخل المجلس الوطني (برلمان نظام الرئيس المخلوع عمر البشير) بلقب “نائب الحج والعمرة” لتخصصه في هذا الملف وطرحه المتكرر لقضايا التجاوزات، رغم انتمائه لكتلة الحزب الحاكم آنذاك، ممثلًا للدائرة (13) الثورة الغربية.

وأكد دياب أن ما حدث في موسم حج 2025 ليس استثناءً، بل امتدادٌ لمنظومة فساد مستمرة، محمية بالإفلات من العقاب، وقال: “الحج تحول إلى نشاط تجاري بحت، تتقاسمه مافيا من الموظفين والمسؤولين داخل بعثة الحج. تتكرر فيه نفس الممارسات كل عام، مع تغيير الوجوه فقط”.

وتابع: التجاوزات المتعلقة بالهدي، والنقل، والسكن، والإعاشة، والعمولات غير القانونية، موثّقة في تقارير المراجع العام للسنوات 2017، 2018، و2019، لكن لم يتم اتخاذ أي إجراء قانوني جاد حيالها. وقال: “كل ما يحدث هو إقالات شكلية وامتصاص لغضب الرأي العام، دون محاسبة حقيقية”.

وفي تعليقه على لجنة التحقيق التي شكّلها رئيس الوزراء د. كامل إدريس، قال دياب: “إذا لم تتحول نتائج تحقيق اللجنة إلى إجراءات قانونية صارمة وتحويل مباشر للنيابة، فإننا أمام تكرار للمشهد القديم ذاته. فالمحاسبة لا تعني عزل الموظف، بل استرداد الأموال وملاحقة المتورطين جنائيًا”.

وكشف دياب عن تعرضه لمحاولات رشوة وصلت قيمتها إلى 300 ألف ريال، وتهديدات بالقتل، خلال متابعته لهذا الملف أثناء فترته النيابية، وقال إن بعض الملفات وصلت فعلًا إلى النائب العام، لكن العقوبات لم تُنفذ، وتم الاكتفاء بإعفاء المسؤولين.

وأوضح أن ملايين الريالات التي تُحصّل من الحجاج تُستخدم أيضًا في تمويل بعثات ضخمة تضم عشرات الموظفين الرسميين، بعضهم بلا دور واضح، فضلًا عن تغطية نفقات وفود حكومية لا علاقة لها بتحسين خدمات الحجيج. ودعا إلى إنهاء احتكار الدولة لهذا الملف، وطرحه للقطاع الخاص بشفافية، تحت رقابة إدارية صارمة.

 *عندما تصبح الشعائر سوقا للفساد* 

بين الشهادات النيابية، وبلاغات المراجع العام، وشكاوى الحجاج، يبرز ملف الحج في السودان كواحد من أبرز ملفات الفساد التي تستحق التحقيق العاجل والعلني، خاصة في ظل تكرار نفس المخالفات سنويًا دون تغيير، مع استمرار الإفلات من العقوبات.

ربما الان الأوان لفتح تحقيق شفاف يعيد الثقة للحج ويحمي حركة الشعائر من عبث المنتفعين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى