رسائل للأحباب: رسالة للسيدة سناء إبراهيم

يا سناء بعد التحية والسلام التام لشخصك

عثمان يوسف خليل

 كم تمنيت لو كان لنا رواكيب أو حتى أرض أو عُوَض كما ينطقها أهلي في الجزيرة لسعدنا بأن نطلب منك أن تسوي لينا شاى وبي لبن كمان، باقي نحن هناك مغرمين بشاي اللبن الكارب داك، وعند المغارب أو وقت الطيحة في رواياتهم آخر من رواياتهم وكمان ما تنسي السكر الزيادة..

يا عزيزتي سناء شدني أن أكتب إليك هذه الرسالة، واستفزني (هنا بالمعنى الإيجابي) ذلك النص الجميل الذي صورتي فيه زيارتك لذلك الصرح العظيم – معهد الموسيقى والمسرح – الذي تشرفت بأني قد انتميت إليه لفترة قصيرة جدًا كطالب في قسم الدراسات الإضافية، ولكن القلق الذي امتلكنا لأسباب أهمها الهوس الفلسفي ونحن على عتاب التخرج منعني من نعم المواصلة.

ما علينا سيدتي، فقد عوضنا بديلاً عنه حوش المجلس القومي للآداب والفنون الذي كان قبلة ومنارة لكل أهل الفنون والآداب والثقافة، وأحسب أن فترة عملي في المجلس كانت من أنضر وأبهى فترات حياتي، حيث أتيحت لي ولحسن الحظ فرصة التقرب إلى ذاك الرهط الطيب من المبدعين السودانيين ممن كانوا يمثلون كل المجالات الأدبية والثقافية، ولم يكن المجلس وحده بالطبع القيم على أمر الثقافة السودانية، فقد كانت هناك أجسام ثقافية أخرى أنشئت لذات الغرض منها مصلحة الثقافة ومعهد الموسيقى والمسرح، وقبلهما دار الإذاعة وبعدها التلفزيون إضافة إلى الجمعيات الأهلية والخاصة، ومن أهمها في نظري دار الثقافة.

أما جهازا الإذاعة والتلفزيون فقد مثلا دور الخزانة التي أدت دورها في حفظت تراث هذا البلد الغني والزاخر بكل ما هو جميل وممتع.

الكلام الفوق كله جاء خاطرة بسبب أن حظي العاثر لم يسعفني أن أتعرف على ذلك الشاعر الذي كانت كلماته تتسلل إلى الروح بعفويتها المتناغمة.. ومن يكون ذلك غير سعد الدين إبراهيم الذي تسلل هو من هذه الدنيا في هدوء مثلما عاش فيها بذات الهدوء.. لقد تعلمنا كلمات الحب الأول حينما كنّا نغازل الحسان في أيامنا بروائع كلمات أغنيات سعد الدين، واللاتي على قلتهن إلا أنهن كن دررًا غوالي، فمن منا لم من لم يردد مع عركي:

ساوا ليكم بادينا شاي

وحالبالكم ضراع الليل

وده عشان تفرحو كلكم.. وانتشينا وتمايلنا وطربنا مع عركي ونحن ننساق زي الشُعَاع بين رواكيب سعد الدين وأوض عركي علشان نتاوق معاه لتلك الحبيبة الفرضية، التي سوت لينا بايدينا شاي وايه كمان من لبن ضرعات الليل زياده كمان.. يا سلام يا سعد الدين كيف لك هذا الخيال الباذخ؟

كان أخوك أبو السعود، أحد رواد تلك المدرسة الواقعية الجديدة في الشعر الغنائي، التي أحسب أنها بدأت بخليل فرح في قدلاته عند شارع الترماي بحي أبروف، ولقد استفاد بالتالي سعد الدين من ذاك الإرث الخليلي ومفرداته الجديدة والمتميزة.. (حافي حالق).. الذي في تقديري ( خليل فرح) إنه هو من وضع حجر الأساس للمدرسة الواقعية الجديدة التي تأثرت بها الأجيال اللاحقة.. وليس ذلك بغريب على سعد الدين ذلك الشاعر المتمرد المعروف بذكائه مما أتاح له أن يخلق لنفسه مفردات أفادته في كتاباته النثرية في عموده الراتب (النشوف آخرتا).

لم يذكر أحد أن سعد الدين قدم عمل درامي حتى أنا الفقير لله المتابع لك ولإبداعك لم أكن حقيقة أعلم أن لك باب عريض وعريق (ومن السنط كمان) إلى أن سمعت صريره من الأمين العام للمجلس الأستاذ جمال محمد أحمد عليه رحمة الله في زيارة لي معه للمسرح للاحتفال بيوم المسرح العالمي، وعم جمال لا يجامل أبدًا مهما كانت مكانتك عنده، انتبه استاذنا جمال لتمثيلية باب السنط كعمل درامي إذاعي وكتب عنها في صحف تلك الأيام وأشاد به كعمل متميز وتنبأ لكاتبه (الشاب وقتها سعد الدين إبراهيم) بمستقبل ناجح، وقد صدق أستاذنا جمال فقد أصبح ذاك الشاب الطموح أحد من يشار إليهم بالبنان في حيواتنا الثقافية.

وشوفنا آخرتا يا سعد الدين، وآخرتا كوم تراب لذاك الجسد الذي لم يتحمل صاحبه المهووس بالإبداع، ولكن ستبقى حكاوي الحبيبة وتلك الأخرى الما بتسأل عن ظروفك، ونسأل نحن رب الرحمة أن يرحمك وهو من كتب على نفسه الرحمة.

عثمان يوسف خليل

المملكة المتحدة

🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹

 

سناء إبراهيم

سيدي الكاتب الجميل عثمان يوسف خليل،

قرأت كلماتك عن أخي سعد الدين إبراهيم، رحمه الله، كمن يُمسك بمنديل من الوجد ويجفف به دمعة في وجدان الوطن. كلماتك لم تكن رثاءً بقدر ما كانت مرآة صافية تعكس كيف تسلل هذا الرجل إلى الناس، وسكن قلوبهم، ثم رحل على أطراف الحنين.

لقد عرفتُ سعد الدين في بيته كما عرفه الناس في كلماته؛ هادئًا، عميقًا، مستغرقًا في التأمل، غارقًا في اللغة كمن يغوص في نهر من المعنى. عرفتُه أخًا، وصديقًا لمن جعلوا من الكلمة حياة. كيف لي أن أنسى حديثه الممتد عن الدوش، عن محجوب شريف، عن التجاني سعيد، عن محمد نجيب محمد علي ومحمد الحويح،  عن دكتور من الله وأستاذ وراق، وعن الرفقة التي لم تكن مجرد أدب، بل كانت مشروعًا إنسانيًا، متّقدًا وواعِدًا.

كانت أيام “نادي المسطبة” و”نادي الحديقة” تضجُّ بنقاشات ومجادلات، ضحك وقراءات، وكلها تذوب في وجدان سعد الدين، وتخرج لاحقًا في قصيدة، في زاوية، أو في صمتٍ لا يُترجم إلا بالحبر.

كان بيتنا يعج بالكتب وبالضيوف وبالشجن النبيل، وكنتُ أراه يسهر يكتب، أو يصغي، أو يبتسم دون أن يُفسر لماذا. كانت كلماته خفيفة على الورق، لكنها ثقيلة بالمعنى، وكانت عزلته لا تشبه الوحدة، بل تشبه النضج حين يختار أن لا يصرخ في ضجيج العالم.

“النشوف آخرتا” لم تكن عمودًا فقط، بل كانت تنهدة تُقال نيابةً عنّا جميعًا، في مواجهة العبث، السخرية، والمفارقة التي نعانيها كل يوم. أما “باب السنط”، فقد كان سرّه الصغير الذي قلّما يتحدث عنه، لكنه يبتسم حين يُذكر، كمن يتذكّر أول حبٍّ خبّأه في دفتر قديم.

سيدي،

لقد رحل سعد الدين كما عاش: بسيطًا، شفيفًا، هادئًا، لكنه ترك وراءه أثرًا لا يُمحى. أما نحن، أسرته الصغيرة، وأسرته الكبيرة الممتدة في الناس، فسنظل نقرأه، نردّد أغنياته، ونشتاق إليه في لحظات الصدق، لأن الصادقين لا يُعوّضون.

شكرًا لك على كلماتك التي نكأت في القلب وجعًا جميلاً، وجعلتني أعود إلى تلك الذكريات التي أحبها، وأحنُّ إليها، التي أصبحت جزءًا منّي.

سناء إبراهيم

أخت الشاعر سعد الدين إبراهيم

28 يونيو 2025

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى