على حافة الأفق 

العقل السياسي السوداني 

د.صلاح عوض عمر
د.صلاح عوض عمر

 

تفكيك الأسطورة وإعادة البناء 

(5)

إعادة البناء.. عقل 

قبل أن نشرع في مقترحات لإعادة البناء، نتطرق لحالة اللجوء التي تسببت فيها الحرب ومالآتها، فالنزوح واللجوء الذي تم للسودانيين وشمل الملايين منهم، تجربة قاسية تكشف عن هشاشة الدولة، وتجبر العقل على طرح أسئلة جذرية وسط غلبة من اللاجئين لم يشغلوا بالهم من قبل بالقضايا السياسية، وازدادت هذه الأسئلة وانداحت لقضايا أخرى، منها التنمية والاقتصاد، لما وجده هؤلاء اللاجئون من مفارقات عندما بدأوا في عقد المقارنات، والمقاربات بين وطنهم والدول التي لجأوا إليها. وجميعهم ظل يلعن (سلسفيك) السودان الذي ظل يراوح العشوائية والشغب العمراني ونمو المدن، ويعاني الفوضى الاجتماعية والمؤسسية، وينظر بحسرة للعقود التي أمضاها السودان في الحروب، والعالم من حوله ينهض وبقدر المستطاع يحاول جاهداً من جعل الاحتياجات الأساسية للإنسان ساهلة وميسورة.

اللجوء لم ينتج لاجئين، بل أنتج عقلاً يرفض الحرب، ويبحث عن السلام بمحبة، عقلاً امتلأ (بالغيرة الحميدة لوطنه).

عقل يحمل جراح المكان، ويؤسس لوعي لا يعرف الهزيمة، بل يتحول من الانكسار إلى البناء، عقل يتشكل نحو الإيجاب رغم المطبات التي يضعها عقل الحرب لإيغار الصدور بالانتقام.

بعد هذا الاستعراض يمكن أن نخلص إلى الآتي:

العقل السياسي لا يورث، بل يُصنع، فالعقول السياسية بعد الاستقلال كانت مشوشة، إذ أنها مزجت الأبوية الطائفية، العقائدية، الشمولية، والانقلابية العسكرية، هذه التراكمات لم تنتج مشروع دولة، بل دائرة مغلقة من الاضطراب والفشل. 

الحرب كشفت انهيار هذا القعل، لم تكن الحرب فقط أزمة سلطوية، بل انكشافاً مريراً لعقل سياسي عاجز عن الإدارة، وعن الفهم، وعن الاعتراف، تحولت السياسة إلى رصاص، والاختلاف إلى مذابح، والسلطة إلى غنيمة.

اللجوء قدم فرصة لبناء عقل جديد من وسط المحن، في الشتات، ومخيمات الإيواء والمدن الممزقة، نشأ عقل مقاوم، عقل اللجوء ليس مجرد رد فعل، بل تأمل في الوطن من بعيد، إذ حمل هذا العقل أسئلة عميقة عن معنى الوطن.

      رفضاً واضحاً للسلاح والسيطرة، ميلاً نحو التنظيم القاعدي، وعياً جديداً بالمواطنة والعدالة والإنتماء. 

ونحن نبحث عن سبل بناء عقل، يجدر بنا أن نصيغ ملامح عقل سياسي ننشده.

  • مدني: يؤمن بالمؤسسات لا بالبندقية.
  • تعددي: يقبل بالتنوع لا يقمعه.
  • نقدي: لا يقدس الزعامات، بل يراجعها.
  • استراتيجي: يبني على المدى الطويل.
  • عدلي: لا يقفز على الجرائم بحجه التسويات.
  • مؤسسي: يبني على القانون، لا على الولاء.

كيف نُعيد البناء؟ 

  • بتأسيس خطاب جديد في الإعلام والتعليم والسياسة.
  • بتوثيق الذاكرة الجماعية وتجارب الحرب.
  • بتمكين العقل القاعدي.
  • بإنتاج فكر سياسي سوداني جديد، خاصة فكر اقتصادي.

خاتمة الختام:

          العقل السياسي ليس مجرد طريقة في التفكير، بل هو البنية التحتية لأي دولة ممكنة، وما لم نعيد بناء هذا القعل في الجذور، من تجربة الثورة، ومن مرارة الحرب، ومن عقل اللجوء – فإننا سنعيد تدوير النكبة في ثوب جديد.

العقل الجديد لا يولد من الخطابة، بل من التجربة، من النقد، من الغضب، من التعلم، وها نحن نملك كل ذلك.        

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى