في دولة تبحث عن الاستقرار والانتقال الآمن
بنيامين بول ميل.. رجل مال في طريقه إلى رئاسة جوبا
في جنوب السودان، حيث تتداخل السياسة بالولاء القبلي والذاكرة الثورية، يصعد رجل المال والاقتصاد بنيامين بول ميل بهدوء لافت إلى مركز التأثير. فهل يمثّل انتقالًا نوعيًا نحو حكم مدني تكنوقراطي، أم مجرد إعادة ترتيب لأوراق الحكم القديم؟
أفق جديد – وحدة الرصد والتحليل
وسط واحدة من أكثر البيئات السياسية هشاشة في شرق أفريقيا، يلفت صعود بنيامين بول ميل الانتباه، لا لأنه مدجج بخطابات جماهيرية أو يحمل إرثًا نضاليًا، بل لأنه يظهر كمشروع مختلف: تكنوقراطي، رجل أرقام وعلاقات، يصعد في لحظة تحوّل حرجة تمر بها دولة جنوب السودان التي احتفلت قبل أيام بعيد استقلالها الثالث عشر.
ومن موقعه الجديد كنائب أول لرئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان، إضافة إلى كونه نائبًا للرئيس للشؤون الاقتصادية، بات اسم بول ميل حاضرًا في كل حديث عن مستقبل الحكم في جوبا، لا سيما في ظل غياب الوضوح بشأن الانتخابات المرتقبة، وتراجع دور الشركاء التقليديين في السلطة.
مركز القرار
عرف بول ميل في الأوساط السياسية والاقتصادية بصفته رجل ظلّ، حركته علاقاته الواسعة في قطاع المال والمقاولات، عبر شركات مثل ABMC وWinners. وارتبط اسمه منذ ما بعد الاستقلال بإدارة ملفات تمويل مشاريع البنية التحتية، وإعادة جدولة مديونيات الدولة، والشراكات مع مؤسسات استثمارية آسيوية، خصوصًا في الصين وماليزيا.
ولئن طاله الكثير من النقد – بما في ذلك إدراجه على قوائم العقوبات الأمريكية منذ 2017 بسبب اتهامات تتعلق بالشفافية – فإن الرجل لم يخرج من المشهد، بل عاد إليه من بوابة المسؤولية السياسية. يقول مراقبون إن سلفا كير اختاره ضمن رؤية تتجه لإحلال نمط إداري داخل السلطة، بديلاً عن الشراكة العسكرية التي سادت منذ توقيع اتفاق السلام في 2018.
صحيفة The Juba Mirror (16 أغسطس 2024) وصفت صعوده بـ”الانتقال من الحاشية إلى القيادة”، فيما رأت Eye Radio أن “بول ميل يمثل خيارًا عقلانيًا للمرحلة المقبلة: غير شعبوي، بعيد عن الانقسامات العسكرية، ومقبول لدى مؤسسات التمويل الدولية، حتى إن بقي محل تحفظ لدى بعض الدوائر الغربية”.
صراع الهويات
ما يميز بول ميل أنه ليس وريثًا للعنف السياسي. لم يقد فصيلًا مسلحًا، ولم ينخرط في حروب ما بعد الاستقلال. ينحدر من قبيلة الدينكا، لكنه ليس جزءًا من مراكز القوى التقليدية داخلها، ولا يرتبط بالثنائية المتنافرة التي طالما حكمت العلاقة بين سلفا كير ورياك مشار. وهذا، في نظر البعض، يُعد ميزة في لحظة تتطلب قدرًا من التهدئة داخل الطبقة الحاكمة.
لكن هذه السمات ذاتها قد تكون تحديًا: فجنوب السودان، حتى اللحظة، لم يشهد انتقالًا مدنيًا كاملًا. والشرعية السياسية ما زالت تُنتج في الميدان أو عبر التحالفات القبلية، لا من داخل الأجهزة البيروقراطية. هل يملك بول ميل أدوات التواصل مع المجتمع؟ وهل يستطيع أن يكون رئيسًا يحظى بالتأييد الشعبي أم سيبقى ممثلًا للنخبة الاقتصادية فقط؟
فلسفة الحكم
جزء من الخلفية التي تفسر صعود بول ميل هو ما يُشبه التهميش التدريجي لرياك مشار، زعيم المعارضة المسلحة ونائب الرئيس بموجب اتفاق السلام. تقارير Radio Tamazuj (أبريل 2025) تؤكد أن مشار يخضع لقيود صارمة على تحركاته، وأن تأثيره التنفيذي تقلص إلى حدود رمزية. وإن صح ذلك، فإننا أمام تحول لافت: الانتقال من “توازن السلاح” إلى “توازن المصالح”، ومن تقاسم السلطة القائم على اتفاقات السلام إلى تقاسمها وفق منطق الإدارة والنفوذ المؤسساتي.
بول ميل، بخلفيته المدنية، قد يُقرأ كإشارة لرغبة في إحداث تحول حقيقي في طبيعة الحكم، لكن من دون إصلاحات سياسية موازية، فإن هذه الخطوة ستبقى في نظر خصومه محاولة لإعادة إنتاج السلطة بشكل أكثر تهذيبًا، لا أكثر ديمقراطية.
جسر عبور
في بلد لا يزال يفتقر إلى دستور دائم، ويعاني من غياب مفوضية انتخابات فاعلة، ومؤسسات عدلية مستقلة، يصبح الحديث عن الانتقال الديمقراطي معلقًا على نوايا النخبة. ومع هذا، فإن بول ميل، بشخصيته غير الصدامية، وعلاقاته المتعددة، وخبرته في الملفات الاقتصادية، قد يكون خيارًا عمليًا لتمرير سنوات ما بعد سلفا كير بأقل تكلفة.
فهو لا يُخيف العسكر، ولا يقلق الشركاء الإقليميين، ولا يُستفز منه المجتمع الدولي بدرجة كبيرة، وهو ما يجعله مرشح توازن لا مرشح تجديد. لكن نجاحه لن يُقاس فقط بقدرته على إدارة الملفات الاقتصادية، بل بمدى قدرته على بناء شبكة سياسية حقيقية تُخرجه من عباءة القصر، وتمنحه شرعية تتجاوز التعيين.
ليس “ظلًا”
بنيامين بول ميل ليس “ظلًا” بالمعنى التقليدي، لكنه أيضًا لم يصبح “مركزًا” بعد. إنه نتاج ظرف سياسي محدد: لحظة بحث عن الانتقال بلا انفجار، ورغبة في حكم بلا ضجيج. وقد يكون بالفعل رجل المرحلة، شريطة أن يتحول من مدير ملفات إلى صانع مشروع وطني جامع، وطبقًا لمقربين منه تحدثوا لـ”أفق جديد” شريطة عدم ذكر أسماءهم فالرجل يتمتع بشخصية قوية وجاذبة وكارزمية، لكنه في الوقت ذاته حاد الطباع ومتقلب المزاج، لا يغفر الخطأ ويطيح برؤوس خصومه دونما رحمة. ويقول موظف عمل معه لسنوات، إن كان أهل الجنوب يبحثون عن رجل اقتصاد من الطراز الأول، فبول هو خيارهم الأول، فقد اغتنى ويملك من المال ما لا يجعله يطمع في المزيد، ولكن إن كانوا يبحثون عن الاستقرار فشخصية الرجل لا أعتقد إنها توفر لهم ذلك. ويرى مراقبون أن الأسئلة الجوهرية المفتوحة أمام الشاب الطامح للسلطة بعد أن اكتنز المال كثير أولها هل يجرؤ على فتح حوار وطني حقيقي مع المعارضة والمجتمع المدني، هل يملك الشجاعة لكسر حلقة المصالح الضيقة التي تشكلت حول الرئيس سلفاكير ميارديت، وهل يسمح له النظام بالتمدد خارج حدود من وضعوه حيث هو؟ كل تلك الأسئلة طبقًا للمراقبين ستظل مفتوحة. وحتى إشعار آخر، يبقى بنيامين بول ميل الرجل الأقرب إلى الكرسي… لكن ليس بالضرورة الأقدر على الحكم.