الإذاعة والتلفزيون بين (المقرب والمبعد)
إعلاميون ضحية الانتقائية.. يكابدون شظف العيش و عسف السلطة
أم سلمة العشا
فوارق كبيرة سطرتها الحرب على جدران الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، قسمت المنتسبين إليها إلى نوعين: مستمر في العمل يتمتع بحوافز ومخصصات مالية عالية تصل حد المليارات، وموقوف رغم أنفه لا يصرف مرتبه الشهري، يعاني شظف العيش، ويكابد برهق جحيم الحياة، وهو مفطوم من ممارسة المهنة التي أدمنها وباتت مصدر رزق له، وسط تساؤلات واسعة عن المعايير المهنية التي اتخذتها إدارة هذا الصرح لكل من الطرفين المقرب والمبعد .
تموج مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بهؤلاء الإعلاميين الموقوفين قسرًا، بهالة من الغضب، مبرزين أن الإدارة التي يجلس على سدتها إبراهيم البزعي، صدت كل من سعى جاهدًا للعودة إلى صفوف العمل، مؤكدين أنها اختارت (السباحة ضد التيار)، منحازة لبعض الأشخاص، ومنهم مجموعة من خارج الهيئة، ما يعتبر تعيينًا غير قانوني وتخطيطًا متعمدًا لإزاحة بعض الشخصيات المؤثرة بأروقتها.
واتهم الإعلاميون الإدارة باحتكار فرص التدريب والتأهيل، مضحية بكفاءات معروفة لمجرد وجودهم الجغرافي وتصنيفهم سياسيًا ومهنيًا، معتبرين أن هذا التصنيف يجافي الواقع تمامًا، وخاضع لأمزجة الإدارة.
يواجه الاعلاميون السودانيون في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون ظروفًا شديدة التعقيد، وسط إهمال إداري وتهميش مهني، وغياب العدالة في توزيع الفرص، وانعدام الحد الأدنى من الاهتمام الرسمي. ما جعل معاناتهم تضاف للنماذج المتعددة التي أفرزتها الحرب، وتجرع ويلاتها المواطن المغلوب على أمره.
ومنذ نشوب الحرب بين الجيش والدعم السريع في 15 أبريل 2023، وجد غالبية العاملين في الهيئة أنفسهم بين شقي الرحى، إما عالقين في مناطق النزاع، أو لاجئين ونازحين في ولايات أخرى أو خارج البلاد. وحاول بعضهم مواصلة رسالتهم الإعلامية في ظل شح الموارد وانعدام التأمين، ورد المدير العام للهيئة على من طرقوا الأبواب لمواصلة العمل خارج الخرطوم كان صادمًا: “لسنا بحاجة لكم”، وهو التصريح الذي أثار موجة من السخط داخل أروقة الهيئة، وفتح الباب واسعًا أمام إطلاق الاتهامات المبطنة والصريحة للقائمين على أمر الهيئة، بممارسة الإقصاء ومنح فرص كبيرة للبعض وتوفير كافة متطلباتهم من تغطية وسفر وحوافز مالية وتجوال بين الولايات.
بين الاتهامات والتصنيفات
ما يزيد تعقيد المشهد الإعلامي في السودان، الزج بالإعلاميين في أتون الاتهامات من قبل أطراف النزاع. فكل محاولة لنقل الحقيقة تُقابل بالهجوم من أحد الطرفين، ويتحول الإعلامي إلى متهم بالانحياز. ويتعمد طرفا الحرب تخوين الإعلاميين أو شيطنتهم، بهدف إخراسهم أو احتوائهم أو شراء أقلامهم.
وتحولت الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون – بما تمثله من رمزية قومية – إلى ثكنة عسكرية خاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع لقرابة عشرة أشهر، إلى جانب المسرح القومي، ومسرح الفنون الشعبية، ومحيط المنطقة بأمدرمان. ومنذ اليوم الأول للحرب، كان مقر الهيئة مسرحًا للقتال، حتى تمكن الجيش السوداني من استعادته في 12 مارس من العام الماضي بعد معارك ضارية استخدم فيها الطيران المسير والأسلحة الثقيلة، مكبدًا قوات الدعم السريع خسائر فادحة في الأرواح والآليات.
حقوق متآكلة وأجور بائسة
مصدر موثوق من منسوبي الإدارة العامة للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون تحدث إلى “أفق جديد” كاشفًا عن عمق الأزمة، فقال إن الوضع الحالي للعاملين سيء للغاية، وأن لديهم حقوقًا مادية متراكمة لا تجد من يتابعها لدى وزارة المالية.
وأكد في السياق ذاته انقطاع التنسيق بين العاملين وعدم المتابعة بسبب أن المدير العام البزعي يقيم في مدينة عطبرة، في شقة فاخرة، بينما يبث التلفزيون والإذاعة من العاصمة الإدارية ومقر الحكومة في بورتسودان.
وقال المصدر بسخرية: “المرتب الذي استلمه حاليًا يعادل ثمن 12 ساندوتش فقط في بورتسودان”، مشيرًا إلى أن الهيئة – رغم أنها تمثل الواجهة الإعلامية الرسمية للدولة – تُدار عن بعد، في وقت تُحتكر فيه فرص التدريب والمأموريات والسفر لفئة محددة تم اختيارها من قبل المدير العام، بعضهم من المتقاعدين، بينما استُبعدت كفاءات شابة حاولت الالتحاق بالهيئة في عطبرة، وقوبلت بالرفض.
وأضاف المصدر: “المدير العام يبرر استبعاده للكوادر بوجود محاذير أمنية، وهي مزاعم لا أساس لها.
وأضاف المصدر أن جهاز الأمن لا علاقة له بهذه التبريرات، ولكن المدير يستخدم اسمه كفزاعة لتكميم الأفواه، ومنع المطالبين بحقوقهم من الحديث.
واتهم المصدر مدير الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون بتعطّيل تنفيذ قرار وزير الإعلام المتعلق بمداورة فرص العمل بين الموظفين، وإنه احتكر بسلطات مطلقة حق العمل لفئة صغيرة ظلت وحدها تحوز الامتيازات والمخصصات، ما أدى إلى خلق تفاوت طبقي ووظيفي واضح داخل المؤسسة.
وقال المصدر: “المدير لا يعرف شيئًا عن أوضاع العاملين كنازحين ولاجئين، ولا تجد منه أي مشاركة أو مواساة، بل استغل موقعه ليعيش هو ومن حوله في برج عاجي، بينما يغرق بقية الموظفين في المعاناة.
وذكر المصدر أن البزعي بلغ سن المعاش قبل أعوام، مبرزًا بأنه لا يحق له قيادة موقع إداري حساس، لافتًا أن البلاد تزخر بالكفاءات.
حاولت (أفق جديد) أن تضع تلك الاتهامات على منضدة مدير الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون إبراهيم البزعي لحقه المهني في الرد عليها، لكنه لم يرد على الاتصالات ولا الرسائل التي بعثتها المجلة له.
تعبت.. وما لقيت غير الظلم
استنطقت (أفق جديد) عددًا من الإعلاميين الذين كانوا ضمن المفطومين عنوة من ممارسة عملهم بالهيئة. روت انتصار عوض، معدة برامج بالهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، تجربتها القاسية، وقالت: “لم أحصل على ترقية رغم الجهد الذي بذلته لسنوات، ومشاركتي في مسابقات خارجية، وفوزي بجوائز. توقعت أن يُنصفني أدائي، لكنني وجدت التجاهل والظلم رغم أنني بلغت باعًا كبيرًا في تطوير نفسي.. كنت أحلم بواقع أجمل وتقدم ملموس في المهنة التي يجري حبها في دمي”.
وأضافت عوض: “رغم الحرب التي دمرت منازلنا وشردتنا، وفقدنا فيها الأحبة، لا زلت أتمسك بمهنيتي، ولن أسمح للظلم أن يدفعني لتصرفات سلبية”.
أسماء أُقصيت وأُحيلت للمعاش
وأشارت انتصار إلى قائمة طويلة من الإعلاميين والكفاءات الذين تعرضوا للإقصاء، من بينهم: المخرجون أبوبكر الهادي، عبد العظيم محمد الطيب، متوكل طه، وحسب الرسول كمال الدين الذي (أُحيل للمعاش)، والمعدة أميرة عبد الحليل.
وأكدت عوض قي ظل غياب الدعم الرسمي، أطلق زملاء نازحون في القاهرة مبادرة اجتماعية لدعم المرضى وتغطية تكاليف العزاءات، ووصفتها انتصار بأنها “أكثر إنسانية من الهيئة نفسها التي لم تقدم أي نوع من المساعدة”.
وذكرت عوض أن بعض الزملاء يخشون انتقاد الإدارة خوفًا من توقف مرتباتهم، رغم أن الراتب حق قانوني حتى في أوقات الحرب، بموجب اتفاقيات العمل الدولية.
تصريحات كسولة
وعلى صعيد رسمي نفت لـ(أفق جديد) مصادر من داخل وزارة الإعلام، حاولت أن تجيب على التساؤلات حول إدارة الصرح من على البعد؛ وجود تعيينات جديدة من خارج الهيئة، وأوضحت أن ظروف الحرب فرضت وقف التعيينات والتنقلات والانتداب لأكثر من عامين، وأكدت أن بورتسودان – كمقر بديل – لا يمكنها استيعاب جميع العاملين، نظرًا لشح السكن والإعاشة وضعف الميزانية.
وأفادت المصادر أن الكثير من المؤسسات تعمل حاليًا بعدد محدود من الممثلين، وأن المهام التي كان يتولاها عشرون موظفًا يقوم بها شخص واحد اليوم، وفقًا لسياسة الطوارئ المتبعة. ووصفت الاحتجاجات التي تبناها بعض العاملين بأنها “ململة مفهومة” لكنها لا تعني بالضرورة وجود تجاوزات.
“صنفونا قحاطة”
وأعاب ميسرة عيسى، كبير المحررين بالإذاعة والتلفزيون، الحال بالهيئة، وقال لـ(أفق جديد): “لقد تم تصنيفنا باعتبارنا (قحاطة) -كلمة تعني الانتماء لقوى الحرية والتغير – رغم أنه لا صلة تنظيمية لي بهم، لكنني أؤمن بالمبادئ التي يحملونها، من حرية وعدالة وكرامة”. مضيفًا: “إن جاءت من القحاطة فأنا معهم، وإن جاءت من غيرهم فأنا أيضًا معهم، فأعزز المبادئ لا الانتماء”.
ويضيف: “أرفض العودة للعمل في هذا الوضع المائل. حتى لو منحني المدير العام ميزانية الطوارئ كلها، فلن أعود”. مردفًا: “هو يعرف ذلك جيدًا”.
ويقترح ميسرة: “فلتسعَ لتسريح البقية غير المرضي عنهم ودفع حقوقهم. طالما الهيئة تستمر في عملها بواسطة أشخاص محدودين هذه أمانة، والتاريخ لا يرحم”.
وبث ميسرة رسالة للزملاء الذين يشعرون بالظلم: “عسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم”.
عجز وإهمال
الصرح الإعلامي الذي تأسس في أربعينيات القرن الماضي، وأسهم في حفظ وحدة البلاد ووجدانها، يعاني اليوم من الإهمال، وغياب الرؤية، وعجز السلطة عن إعادة تأهيله.
يقول خبراء إعلاميون تحدثوا لـ(أفق جديد) إن السلطات لم تبادر بأي مشروع لإزالة آثار الحرب عن مباني الهيئة، أو إعادة تأهيل الاستوديوهات لنقل نبض المناطق المحررة، بينما لم يحرّك العاملون أو مديرهم ساكنًا تجاه تنظيف مقارهم أو تجهيز بيئة العمل.
وقال الخبراء إن أمدرمان أصبحت منطقة خالية من الحرب وعم الأمن أرجائها، وأن الأولى في ظل هذه الظروف إعادة الهيئة للعمل من المنطقة، وفتح الأبواب لجميع الموظفين فيها لممارسة حقهم الشرعي في العمل، وإنهاء هذا الاحتكار ومعالجة موضوع المنصرفات مع وزارة المالية، وتحقيق العدالة المهنية.