“الجيوسياسي” حلقة مفقودة في صراع السودان
في ندوة “أفق جديد”
“الجيوسياسي” حلقة مفقودة في صراع السودان
أفق جديد
كان غرض الندوة التي أقامتها مجلة أفق جديد أمس الأول ، أن يتفاكر خبراء وباحثين وصحفيين في “الأهمية الإستراتيجية للبحر الأحمر وتأثيره على قضايا الصراع”، ولكن سريعاً ما تبين أن “الجيوسياسي” أو الجيوبولتيك هو الحلقة المفقودة في فهم المشهد السوداني جملة ، وتحليل واقع حرب 15 أبريل المستعرة فيه تفصيلاً ، وإتضح كذلك أن المنشغلين بالشأن العام وفي مقدمتهم السياسيين والباحثين لا يقدرون دور الجغرافيا السياسية حق قدرها ، ويستسهلون تأثيرها ، على الرغم من تجلياتها اليومية في واقع السودان ، وخلال الندوة تأكد أن لا مناص من وضع الجيوسياسي على طاولة التشريح ، وفهمه بعمق ، حتى يستثمر السودان الإيجابي ويتحاشى السلبي ، وإن مستقبل الحرب وتطوراتها وحلولها شديدة الصلة بالدولة المحادة للسودان والمحيط الإقليمي و الدولي.
طريق الأمن والإقتصاد
إبتدر د.أحمد أبوسن النقاش حول الأهمية الإستراتيجية للبحر الأحمر ، وقبل أن يشرح أهمية شواطئ السودان لأمن منطقة القرن الأفريقي وشواطئ الخليج، أشار إلى أن (10%) من تجارة العالم تنقل عبر مياه البحر الأحمر، عندما كان السودان يملك (750) كيلومترا فهو بلد شديد الأهمية للحركة العالمية للبضائع، كما أن البحر هو الممر الرابط بين جنوب الكرة الأرضية وشمالها وربطه بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط وهذا ينعكس مباشرة على ميناء بورتسودان والموانيء السودانية الأخرى، ويجعل مستقبلها مغري للتنافس الإقليمي والدولي، ويلعب الممر الحيوي دور آخر وهو ربط إفريقيا بالجزيرة العربية والشرق الأوسط، وهنا تتداخل التأثيرات الإقتصادية مع الآثار الثقافية لهذا الربط وربما كان ساحل السودان على البحر الأحمر أحد أهم معابر الحجيج الأفريقي إلى الحجاز ، ومع الوقت أصبح معبراً رئيسياً لتهريب الذهب والسلاح معا .
في أهمية البحر الأحمر للأمن الإقليمي والعالمي ، نجد تأثيره بطبيعة الجغرافيا يمتد إلى بلدان القرن الأفريقي، وخاصة إثيوبيا وإريتريا وجيبوتي والصومال، وكذلك يمتد شمالاً إلى جمهورية مصر، وهذا التأثير شديد التداخل بين الأمني والاقتصادي، ولا تسلم من هذا التأثير دول الساحل الأفريقي الغربي وخاصة دول جوار السودان مثل تشاد وأفريقيا الوسطى وليبيا .
الخليج العربي وضع خاص
من بين ما ذكر في الورقة الرئيسية وما تطرق له النقاش ، علاقة أمن الخليج العربي، وسواحل البحر الأحمر ، وفضلاً عن كون أنه ممر هام للتجارة الهابطة من منطقة الخليج عبر طريق الحرير إلى الصين فهو يعد واجهة ذات إنعكاسات أمنية هامة ، ومؤخراً نشطت المملكة العربية السعودية في تأسيس منظومة تعرف بمجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن ويبلغ عدد الدول الأعضاء في هذا المجلس
(8) دول و تأسس في الرياض في تاريخ 6 يناير 2020 من قبل الدول الأعضاء المؤسسة وهي: السعودية، مصر، اليمن، الصومال، إريتريا، جيبوتي، الأردن، السودان، وتقابل السواحل السودانية السواحل السودانية مباشرة ولا تتعدى الرحلة ساعات للتنقل من شاطئ لآخر، ولا يقتصر الاهتمام بأمن البحر الأحمر في الخليج على السعودية ولكن يمتد إلى بقية الدول الأعضاء وفي مقدمتها دولة الإمارات العربية والتي سعت حثيثا للحصول على موانئ على الساحل السوداني، وقطعت شوطا طويلا في صفقة ميناء أبوعمامة مع العسكريين بعد إنقلاب 2021، وكانت الصفقة تحت إشراف قائد الجيش عبد البرهان شخصيا ولكن بعد الحرب تبدلت الأمور، والتنافس على إدارة موانئ البحر الأحمر ظل ملفا ساخنا وينظر إليه على أنه ملف أماني مغلف بدوافع اقتصادية، وخلال النقاش ورد الدور الإسرائيلي المتعلق بأمن منطقة الشرق الأوسط وطرق تهريب السلاح والبشر، ونظرتها إلى تقاطعات البحر الأحمر الناشئة من كون أنه ممر اقتصادي وأمني له تأثير واسع على المنطقة.
قواعد عسكرية: سنوات من التلويح
تتجلى أهمية الجغرافيا السياسية لمنطقة البحر الأحمر في التنافس الدولي العابر للإقليم والمنطقة، والذي يظهر فيه علناً الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، وتكتلات إقليمية ودولية، ولم تغب عن الأذهان معركة القاعدة الروسية في بورتسودان، والتي كانت نتيجة إتفاق بين حكومة المخلوع عمر البشير ودولة روسيا، وفعليا وصلت فرطاقات روسية ورست في المياه السودانية على الساحل، وشرعت روسيا في تجهيز قاعدة حربية للمراقبة والتدخل السريع تستوعب في مرحلتها الأولى (300) جندي، والملاحظ أن المضي في التنفيذ لم يكن بحجم الدعاية لهذه القاعدة، ويتردد أن السعودية ودول خليجية ومن خلفهم أمريكا وراء تأخير تنفيذ القاعدة، خوفاً على أمن الخليج وخاصة في ظل الحلف الإيراني الروسي السوري وقتها، وبعد الاطاحة بالبشير توقف المشروع الروسي، ولكنه عاد من جديد بعد سيطرة العسكريين على السلطة بانقلاب 25 أكتوبر 2021 والإطاحة بالمدنيين، وتزامن مع القاعدة الحربية الروسية وجود للأتراك بدعوى ترميم مدينة سواكن التاريخية، وكذلك وجود إيراني يقال أنه استمر إلى وقت متأخر، فضلا عن وجود مستتر لمخابرات الدول المهتمة الجيوسياسي للبحر الأحمر، ويرى الخبراء أن التلويح بالقواعد العسكرية بالبحر الأحمر سياسة استمرت لسنوات يستخدمها العسكريون السودانيون الممسكين بالسلطة للمساومات بعد معرفتهم بأهمية سواحل البحر الأحمر وأهميتها للدول المتنافسة.
البحر الأحمر في الصراع
شواهد محورية البحر الأحمر، وربطه للجغرافيا السياسية العالمية والإقليمية، يمكن استنباطها من الصراعات التي اندلعت مؤخرا متخذة من البحر الأحمر مسرحاً لها، ومن بينها الحرب في اليمن وموانئها التي كانت منفذا هاما لوصول المساعدات الإنسانية، وكذلك دوره في حرب غزة بعد أن إستهدف جماعة أنصار الله الحوثية البواخر الأمريكية والأوروبية إنتقاماً من إسرائيل ودعمها لجماعة حماس الإسلامية، ولا تزال الأزمة بين اثيوبيا والصومال وأثيوبيا وأريتريا على شواطيء البحر الأحمر قائمة.
السودان: جيوسياسي معقد
ربما تسبب الجوار الإقليمي المُعقد، في زيادة حساسية موقع السودان الجيوسياسي، وهذا الجوار يجمعه شرقاً بإثيوبيا وإريتريا، وغربا مع كل من ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى، بما يضعه في دائرة التفاعلات الخاصة بمنطقة القرن الأفريقي و في إقليم الساحل الأفريقي على حد سواء، أما جواره الشمالي يكتسب أهمية كبيرة بسبب وجود الدولة المركزية مصر، وأبعادها الإقليمية والدولية ودورها في الشرق الأوسط وأفريقيا ووزنها في التكتلات العربية والأفريقية، ثم جواره الجنوبي المتمثل في جنوب السودان، ذات العلاقة التاريخية وربطها بالدول الوازنة في شرق أفريقيا كينيا ويوغندا ومنطقة البحيرات العظمى، وهذا الجوار المعقد بطبيعة الحال لديه ظلال سالبة على الداخل السوداني، وأشار د.أبوسن أكثر من مرة إلى هذه التأثيرات ومن بينها الهجرات واللجوء من قبل مواطنين تلك الدول جراء الحروب والتوترات الأمنية والتدهور الاقتصادي، وهذا يؤثر مباشرة على التنمية والأمن الداخلي.
أكثر من البحر الأحمر
تطرق د.أحمد ابوسن إلى الجغرافيا السياسية للسودان، التي تتعدى البحر الأحمر، وتجعله في دائرة اهتمامات وتنافس دول في الجوار والإقليم والعالم، وتناول بالتفصيل خارطة الدول ذات الوجود في المشهد السوداني من أبواب مختلفة ومن بينها أمريكا وروسيا والصين والسعودية وبريطانيا والإمارات، وإيران وكينيا وتشاد وغيرها، وتوافق الحضور في ندوة أفق جديد، على ضرورة رسم خارطة تشرح أدوار الدول واهتماماتها ومخاوفها في ما يتعلق بـ الجيوسياسي السوداني، ورصد تفاعلات الداخل السوداني مع هذه الاهتمامات الآن وفي المستقبل، وهذا سيقود بطبيعة الحال للحديث عن الموارد والثروات ومسار التحالفات الإقليمية والعالمية وأيها أنفع للسودان.
الحرب وتجليات العالم
لا جدال في كون أن حرب 15 أبريل أظهرت إنعكاسات الموقع الجغرافي للسودان على الصراع الداخلي، بدأ من اتهامات تدفق المقاتلين من دول الجوار بدوافع قبلية واقتصادية كما هو في غرب السودان أو دوافع سياسية واقتصادية في شرق السودان، ولم يكف الجنوب يده عن الحرب ودعم أحد أطرافها، إضافة إلى حديث عن أدوار دول مثل الإمارات والسعودية وروسيا وإيران، وتركيا، والدليل الأكبر على التدخلات الدولية العميقة والمباشرة الاعتراف بدور هذه الدول في حل الأزمة نفسها ويتجلى ذلك في الاجتماع المنتظر عقده في واشنطن في جود الدول الأربعة مصر والسعودية والإمارات وأمريكا نفسها، والتعاطي مع التدخلات الدولية بعيدا عن فهم مكاسب ومخاوف هذه الدول يؤدي إلى تفسيرات خاطئة ومضطربة في الغالب الأعم
الجيوسياسي من يهتم؟
في ندوة أفق جديد ” الأهمية الإستراتيجية للبحر الأحمر وقضايا الصراع”، دار نقاش كثيف حول ضرورة النظر إلى جيوبوليتيك بعمق، وانتقد كثيرون التعامل معه استسهال، ومن هنا طرح سؤال هام، من هم المناط بهم القيام بذلك، وكان الإجماع على الأكاديميين والباحثين مراكز الدراسات، وقبل ذلك السياسيين والقوى السياسية إن كانت ستأخذ العمل السياسي على محمل الجد، وكان هناك تكليف خص به أفق جديد أن تكون حلقة وصل بين المذكورين أعلاه والجمهور بمختلف اهتماماته، ومن هنا سوف تنشر المجلة تفاصيل الندوة في العدد القادم.