من يخاف حنان الجاك؟

السر السيد

هذا العنوان اجترحه ذات يوم الناقد الصديق عصام أبو القاسم في معرض إشارته لمقالة كنت قد كتبتها حول مسرحية (رغوة صابون)، التي شاركت فى بطولتها الممثلة حنان الجاك. وأنا هنا استعير هذا العنوان للكتابةِ عن حنان الجاك أيضًا، ولكن هذه المرة فى مسرحية “مونودراما الراقصة”، التي عرضت على مسرح الفنون الشعبية بأم درمان في الفترة من يوم 13 إلى 18 يوليو 2011، وهي من تأليف جعفر سعيد الريح، وتمثيل حنان الجاك وعوض حرقل، وفي الأزياء مهيرة الطيب، وفي الديكور مجدي سر الختم، وفي الموسيقى عوض حرقل، ودراماتورج ورؤية إخراجية عبد الحكيم عامر.

في عنوان العرض:

“مونودراما الراقصة” هو عنوان العرض، وهو عنوان يتحدد من خلال خبرة المشاهد السوداني المرتبطة بكلمة راقصة، وببطولة حنان الجاك، فلأسباب كثيرة أصبح الرقص في السودان في حالات كثيرة جريمة يعاقب عليها القانون، كما أنه بات فنًا تحت الحصار، مما يعني أن عنوان العرض وتحديدًا كلمة “الراقصة”، يضع الذين قرروا الذهاب إلى العرض أمام تحدٍ خاص، وأمام أسئلة خاصة تفرضها رغبتهم الخاصة في مشاهدة هذا الفن الذي أصبح أو يكاد في عداد المحرمات، يضاف لهذا علمهم بأن الراقصة هي حنان الجاك.. بمعنى أن الراقصة امرأة/أنثى… ممثلة ذات تاريخ جرئ في مسيرة المسرح السوداني كونته عبر مشاركتها فى العديد من المسرحيات التى حاولت أن تقارب المسكوت عنه في عوالم النساء، كمسرحيات عنبر المجنونات، وضرة واحدة لا تكفي، وتاجوج في الخرطوم، ورغوة صابون، ونسوان برة الشبكة.. هذه المسرحيات الصادمة لكل ما هو سائد، وهذه المسرحيات التي كشفت أن الممثلة حنان الجاك دون غيرها من الممثلات وبشكل أكبر يحتل عندها التعبير بالجسد حيزًا كبيرًا، كما أنها كثيرًا ما قامت بأداء الأدوار الصادمة للذائقة السائدة (انظر أدوارها في عنبر المجنونات وفي رغوة صابون وفي نسوان برة الشبكة على سبيل المثال).. بهذه المشاعر أو قل بهذه المخاوف القبْلية يتلقى المشاهدون الذين قرروا دخول العرض عنوان المسرحية، ويشاركون بإرادتهم في إعادة الاعتبار لفن الرقص وتحديدًا الرقص الفردي، وبشكل أدق رقص المرأة، وبشكل أكثر دقة الرقص خارج سياقات الفلكلور والمناسبات الرسمية، ليصبح عنوان المقالة الذي استعرته من الناقد عصام أبو القاسم (من يخاف حنان الجاك؟) سؤالًا مستمرًا.

قريبًا من العرض:

تفتح الستارة ويبدأ الرقص وتبدأ الحكاية. فالمكان والزمان والموسيقى والناس مندمغون في الجسد… جسد الراقصة (الممثلة حنان الجاك)، فالمكان الذي يحيل إلى قرية أفريقية ما توجد في اللحظة التاريخية التى يعيشها العالم اليوم، فهي على صلة بما يحدث الآن وبما يثار من أسئلة الآن، والزمان الذي يتجسد في الآن ويعود إلى الوراء عبر الذكريات، ويمتد في المستقبل عبر الأحلام، إنما يصنعه الرقص عبر توهجه وخفوته، وتصنعه الموسيقى عبر توهجها وخفوتها، وحتى العازف الذي يظهر على الخشبة وكأنه ممثل ما هو إلا حيلة تغريبية تضيء البطلة وتدعم حكيها ورقصها، والناس الذين تحكي عنهم لم يكونوا غير أناس تعرضت أجسادهم لمحاولات مختلفة من الإخضاع والهيمنة بسبب الحروب أو الأمراض أو الفروق الجسدية بين النساء والرجال وجعلها أساسًا للتمييز بينهما، لتشكل كل هذه المحاولات منظومة من العنف الموجه للجسد، وبصفة خاصة أجساد النساء. فالعرض وهو يضيء الجسد بالرقص ويصوره في صورته البليغة الخلاقة كحامل للحب والسلام وداعم للحياة الحرة الكريمة، يصوره في الوقت نفسه كعرضة للانتهاكات بمختلف أشكالها التي تقهره وتشوهه بالاغتصاب، أو بالكي بالنار كما في حالة “نافيبا” المنافسة الرئيسة للراقصة، أو بالأمراض الجلدية الغريبة، أو بمحوه نهائيًا من الوجود كما في حالات الحروب أو حالة الطفلة التي حكت عنها الراقصة، تلك الطفلة التي قتلها زوجها المسن في إشارة إلى الزواج المبكر”زواج القاصرات” كعنف تتعرض له الفتيات في مجتمع قبيلة الراقصة، التي أشرنا في معرض حديثنا إلى أن موقعها وفقًا لعلاقات العرض لا يتحدد بمكان وزمان معينين بل ينفتح ليلامس اللحظة الراهنة في عالم اليوم، ولعل ما يؤكد هذا هو أن هذه القبيلة قررت أن يكون عيد الرقص هذا العام احتفالًا بمناهضة العنف ضد النساء، وكذلك زيارة الفريق الطبي الحديث لهذه القبيلة، وأيضا إشارة الراقصة إلى ضرورة احترام التعددية الثقافية والتنوع الثقافي عندما قالت: (إنهم يشنون علينا الحرب لأن ثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا تختلف عن ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم)، وكما هو معلوم لم تظهر الدعوة إلى الاهتمام بالتعددية الثقافية واحترامها واحترام التنوع الثقافى إلا في الأربعين سنة الماضية (انظر ويل كيمليكا – ترجمة د. إمام عبدالفتاح إمام – كتاب أوديسا التعددية الثقافية-  سبر السياسات الدولية الجديدة في التنوع  – سلسلة عالم المعرفة –يونيو 2011)، وكل هذا بالضرورة يعني أن هذه القبيلة ليست معزولة عن العالم بل موجودة فيه ومتأثرة به، فالعرض الذي يزاوج بإيقاعية محكمة بين اللغة الملفوظة والحركة.. بين الضوء والظلام.. بين الموسيقى والرقص.. بين الكلام والصمت، لا يحكي حكاية عن قرية أفريقية ما أو فتاة أفريقية ما وإن تبدى هذا للوهلة الأولى، وإنما يحكي عن الجسد الإنساني كشاهد على التفتح والانطلاق، وفي الوقت نفسه كشاهد على القهر والإخضاع والانتهاك، ولا بأس هنا من أن أورد بعضًا مما قالته الراقصة: (سأكون الراقصة التي تهب الناس الانسجام والمحبة والأمل… يا بنات القبيلة غنين معي وارقصن).. إذن فالعرض وهو يشعل الجسد.. الجسد المتدرب.. الجسد الذي يعي أبعاده البيولوجية وسياقاته الثقافية إنما كان يحاول أن يقول كما جاء في كتاب كرس شلنج (الجسد والنظرية الاجتماعية) إذا كان البعض يقول إن الجسد خطيئة والعلم يقول إن الجسد آلة والإعلانات تقول إن الجسد مشروع تجاري فأنا أقول أي العرض… يقول الجسد: أنا مهرجان.

حقًا إنه لعرض ممتع وجميل تألقت فيه كعادتها دائمًا الممثلة حنان الجاك، وظهر فيه الكاتب جعفر سعيد بشكل مختلف، وأفرغ فيه المخرج عبد الحكيم عامر شاعريته الدفاقة المؤجلة، ثم تحية خاصة لعوض حرقل وهو يقف كالحارس الليلي  أمام بوابات الرقص والجسد والطبل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى